عزيزة علياني | تونس
حين يُلعَن الكاتب في معقله
من أصعب المواقف التي قد يتعرض لها الكاتب، حين يجد نفسه في مواجهة مباشرة مع جمهور لا يقرأ، فيواجه استفزازا عشوائيا، ومواقف تقلل من شأن الكتاب والكاتب في المكان الذي من المفترض أن يكون الحِضن الذي يرتمي فيه، والحصن الذي يحتمي به، ويرى فيه كيانه.
فحين يُلعن أهل الدار في عقر ديارهم، ويُلعن الكاتب والكتاب في رحاب معرض الكتاب، فاعلم أن النهاية قد اقتربت، وأن الكتاب يحتضر ويلفظ أنفاسه الأخيرة. حيث تجلّت البشاعة في أبهى حللها في مشهد طريف وتراجيدي سيظل محفورا ومنحوتا في الذاكرة.
لك أن تتخيل موقف الكاتب حين يسمع هذه الكلمات: "لعن الله الثقافة والمثقفين" في معرض تونس الدولي للكتاب. قد تكون مجرد كلمات عابرة تفوه بها مجموعة من المراهقين على سبيل الدعابة، أو على سبيل استعراض عضلاتهم على رؤوس الملأ بهدف الإضحاك والتفكّه أثناء تجوالهم العشوائي في أروقة المعرض، لكنها استوقفتني لما تحمله من معانٍ دقيقة ودلالات عميقة، حيث إنها تنذر بمستقبل مجهول للثقافة والمثقفين في تونس.
يبدو أن
الكاتب في تونس أصبح يعيش غربة مادية ومعنوية في بلاد الثقافة والعلم، وفي بلاد من
المفترض أن تقدّس العلم وقد تبجّح شعبها بذلك على مرّ عقود، حتى كادت الثقافة أن
تكون علامة مسجّلة باسمنا.
من قداسة الكتاب إلى صور التباهي: هل أصبحنا نقرأ لنُرى فقط؟
فهل هذه حقيقة أم أنها مجرد شعارات نزايد بها على الجوار والأشقاء متى
اشتد الصدام الافتراضي؟
وهل هو
وقوف على أطلال ماضينا، أم أن للكتاب مكانة محفوظة في ظل الغزو التكنولوجي؟
أسئلة تطرح نفسها، وتحمل في طيّاتها أجوبة شافية وكافية، فعلاقة التونسي بالكتاب أصبحت علاقة مناسباتية، وزيارة معرض الكتاب عند البعض أصبحت عادة للتباهي، وفرصة لالتقاط صور جميلة لتزيين جدار الفيسبوك والأنستغرام وحتى التيكتوك.
فترى الكاتب يخوض حربا ضروسا لإحياء رميم الكتاب في عصر تكاثفت فيه الكتب وقلّ القراء. قد لا تكون الثورة التكنولوجية وحدها المسؤولة عن ذلك، فلرداءة بعض الكتب دور مفصلي في عزوف البعض عن المطالعة، وأصبح الكتاب مجرد ديكور لمكتبات البعض، يشبعه الدهر غبارا حتى تمحى معالمه وتتوارى فلسفة الكاتب تحت أتربة الغرف.
والملاحظ الحصيف يمكنه أن يرى الحقيقة جلية أمامه، تتجلّى في بعض العناوين التي لا معنى لها ولا تمتّ لمحتوى الكتاب بأي صلة، وهي فقط للفت الانتباه وإثارة فضول القارئ.
لا ننكر أن
اختيار العنوان من ضمن أفضل الوسائل الترويجية لشدّ القارئ، لكن العقل لا يتقبّل
فكرة أن يكون العنوان مُسقطا ولا علاقة له بفحوى الكتاب.
رداءة النصوص وخيبات القراء: حين يتحول الإحباط إلى ندبة لا تُنسى
والمتطفّلون كثر، وكتاباتهم تجارية تفتقر لأبسط مقومات النص الأدبي،
وطرحهم يروّج للرداءة، فيجذبون القارئ، ويؤسّسون لذوق جديد يُدنّس الذوق العام،
وسرعان ما ينتشر كالنار في الهشيم حتى يصبح بصمة موحّدة لجيل كامل.
يبدو أن
خيبات القارئ تتالت وتكررت، حتى تحوّلت تلك التراكمات إلى أزمة ثقة عميقة بينه
وبين الكاتب، وتباعدت المسافات بينهما حدّ الجفاء، واتّسعت الهوة بشكل متسارع.
"لعن
الله الثقافة والمثقفين"، كلمات ترددت على مسمع أذني وعلى مرأى عيني مباشرة
في معرض تونس الدولي للكتاب في دورته 38 سنة 2024، اجتاحتني حينها مشاعر مختلطة لا
تفسير لها ولا قدرة لي على وصفها، كأنها ألم، ارتباك، أو ربما تشنّج. ما أذكره
حينها أن بدني اهتزّ لتلك العبارات، خاصة وأن القائل كان ينظر صوبي أثناء إشرافي
على ورشة مطالعة. فصدرت مني حينها ضحكة عشوائية مجرّدة من كل مشاعر الفرح، ضحكة
تعكس حجم الإحباط لكاتب يشقّ طريقه نحو النجاح، ومتحمّس لمسيرة إيجابية في هذا
الميدان الشائك والمحفوف بكل أنواع المخاطر والمطبات. حتى إنني كلما أقدمت على
كتابة قصص جديدة منذ ذلك التاريخ، إلا ورنّت تلك العبارات في أذني كصليل السيوف،
فأضحك ذات الضحكة، ويُسيطر عليّ خوف رهيب يُربكني ويَبثّ التردد في داخلي، ولعلني
لن أنساها ما حييت.
حين تُلعن الثقافة: صافرات إنذار من قلب المعرض
رغم أن مصطلح الثقافة أشمل بكثير من مجال الأدب بمختلف أجناسه وتشعباته، إلا أن هذا المجال يُعتبر الوعاء الأكثر احتواء لهذا المفهوم، والذي تتجلى فيه مظاهر التميّز والإبداع والتفرّد، حتى إن صفة المثقّف غالبا ما تُطلق على الكاتب أو القارئ على حدّ سواء، وعلى كل شخص مُطالع وعالم وعارف.
وعندما تُلعن الثقافة من فئة عمرية من المفترض أن تكون قارئة ومحبّة للكتاب في رحاب معرض الكتاب، ومن فئة نرى فيها مستقبل وطن يستثمر في طاقاته البشرية، ويرى في شبابه نورا ساطعا لا تواريه الظلمات، لا بد أن ندقّ ناقوس الخطر مرارا وتكرارا، ونطلق صافرات الإنذار، لعلّ أصحاب الرؤى وأصحاب الرأي يتدخلون في وضع المشكلة على طاولة الحوار، اعترافا بوجودها، وبحثا في أسبابها، وطرحا للحلول إن وُجدت.