إن المجتمع وهو ينسج علاقاته طبقا لظواهره الاقتصادية والثقافية، يقف أمام معطى هام هو الذاكرة الشعبية والجماعية الحاملة لمعظم المواقف والعبر لأحداث مرت وغدت ذكرى واستطاعت إيجاد حلقة ربط بحاضرنا عبر وسائل متعددة وفعالة في ثقافتنا اليومية، كالأمثال والحكايات الشعبية نظرا لخصوصيات البناء الفيلولولجي والتاريخي لمثل هذه الوسائل، كالسجع والتنميق والنغمات الموسيقية المصاحبة للكلمة المسموعة التي تسهل عمليات الحفظ الجماعي، والتوارث عبر الكلمة المنطوقة وسلطتها المرجعية ذات النفوذ المسلط على الفعل الاجتماعي، والقائم به وإن تنوعت في الزمان والمكان، كسلطة الأب والقبيلة والتقاليد وغيرها.
إن هذه الذاكرة كأية سلطة مرجعية، معرفية كانت أم سياسية، لها جهازها المفاهيمي والمدافعون عنها من أنصار ومنظرين، وتستمد قوتها من مبدإ الاستشهاد المتوارث لدى أصحاب الخبرات والتجارب لتحسين الفعل الاجتماعي أو لتقبيحه، طبقا لمثل دامغ أو حكاية متوارثة تنذر نهايتها بالمقدمات المنطقية الواصفة للحدث.
بمعنى: إذا سقت الحدث والموقف ووضعته بهذا الشكل فأنت مستهدف لان تكون نهايات ما ستقوم به كنهايات المثل والحكاية فيصبح الفعل الاجتماعي وقتها مشروطا.
فإعادة وتكرار بعض الظواهر الاجتماعية وتصديقها لهذه الأمثال مما يقوي سلطتها وتنفيذها حتى في غياب المدافعين عنها.
وهذا إشكال آخر، إذا تصبح هذه الذاكرة بمثابة «أنا أعلى» للأفراد الاجتماعيين خلال إقامة علاقاتهم، إذ يراعون هذا البعد، خاصة وقد تحول إلى مسألة ملزمة ذاتيا.
وتستمد وقتها الرقابة الاجتماعية نظاما للعقوبات والجزاء مربوطا بمدى تماثل الفرد الاجتماعي للسلطة التبادلية التي تحكم احتياجاته ومتطلباته.
وتكون وقتها مصلحة الفرد إذا ارتضى موقع الإنسان الاجتماعي المرضي عنه التوافق مع القاعدة، وإن مرّ بعملية الإكراه الداخلي والخارجي وقت مسايرته للقاعدة وتطبيقها. وبالمقابل هناك الخارجون عن القاعدة والنظم الاجتماعية والمربوطون في ذلك بالتوافق الجزئي والمؤقت.
وهذا رد فعل طبيعي إذا تجاوز الفعل الإجماعي نوعية معينة من الأشكال الثقافية، كالانقلاب المعرفي الذي تجاوز عصر السحر والطلاسم، وسلطة قراطيس الساحر العالم بالغيب، ومستقبل الأفعال لمجموع الناس. فبرغم هذه الانقلابات المعرفية المتواصلة على الأشكال الثقافية التي تتجاوز خصوصيات المرحلة التاريخية المنتجة وقتها نوعية أخرى من الموارد المادية والرمزية التي تشكل جهازها المفاهيمي وطرق ممارسة عمليات الإقناع بجدواها حتى تتمكن من استيعاب القاعدة السابقة بكل جزئياتها، وتمارس وقتها تقنيات سلطتها المعرفية أو العملية، وتأخذ الرقابة الاجتماعية أبعاد أخرى في الهيمنة والتسلط، ولا يستطيع الفرد الخروج والشذوذ عن القاعدة إلا لإيجاد حلقة أخرى للارتباط وقاعدة أخرى للإتباع.
وتكون عندها مسألة المجتمع المراقب مسألة لا مفر منها إلا بالتطور في إطار نوعيات الأشكال الثقافية، فكما تمارس الذاكرة الجماعية والشعبية سلطتها الحادة في مجتمعات معينة، تمارس مثلها البيروقراطية هيمنتها على الحياة المهنية والاقتصادية في بعض المجتمعات الأخرى.
تبقى إذن مسألة الذاكرة الجماعية في حاجة إلى إعادة قراءة وإسالة للحبر لمعرفة عملية أدق بكيفية النشأة وبحث انتقالها الموضوعي من المكانة الشفاهية التي هي عليها، إلى كتابتها وحفظها باستعمال أحدث تقنيات النقل، لما تمثله من مخزون معرفي تاريخي لتراثنا الذي أخذ أشكالا متنوعة في الزمان والمكان، واعادة فهمها وفهم السلطة التي تمارسها عبر تنقيب يمس جوهر الحركة الاجتماعية وسلطتها المتداخلة في تطورها وسيرورة حركتها.
بقلم: طارق العمراوي (تونس)