حسن امحيل | المغرب
تقديم
يشكل تدبير المال العام أحد أبرز تحديات الدولة الحديثة، ليس فقط لكونه يعكس
قدرة المؤسسات على تعبئة الموارد وإنفاقها بكفاءة، وإنما أيضاً لأنه يرتبط مباشرة بثقة
المواطنين في الأداء العمومي. ويُعد هذا المجال انعكاساً مباشراً لمستوى الحكامة والشفافية،
خاصة في ظل ارتفاع سقف الانتظارات المجتمعية فيما يتعلق بجودة الخدمات والمرافق العمومية،
والحاجة إلى عدالة اجتماعية ومجالية قائمة على إنصاف في التوزيع والاستفادة من الثروات
الوطنية.
في السياق المغربي، جاء دستور 2011 ليعزز موقع الحكامة المالية كمرتكز دستوري
في بناء دولة الحق والمؤسسات، حيث نص في فصله الأول على أن "التنظيم الترابي للمملكة
تنظيم لا مركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة" مما يستتبع بالضرورة وجود نظام مالي
شفاف وفعال يضمن حسن تدبير الموارد المالية العمومية، سواء على المستوى المركزي أو
الترابي. كما أكد الفصل 147 على دور المجلس الأعلى للحسابات باعتباره الهيئة العليا
لمراقبة المالية العامة، وهي المؤسسة التي تضطلع بمهمة مراقبة تنفيذ قوانين المالية
وتقييم كيفية استخدام الأموال العمومية وتدبيرها. أما الفصل 154 فقد شدد على أن المرافق
العمومية تُنظَّم وتُدار وفق مبادئ المساواة، والاستمرارية، والجودة، وربط المسؤولية
بالمحاسبة.
ضمن هذا الإطار المؤسسي، يبرز دور المحاسب العمومي كأحد الفاعلين الأساسيين
في المنظومة المالية، إذ يتولى تنفيذ العمليات المالية والإدارية المرتبطة بالتحصيل
والصرف. فلا يمكن تصور دورة تنفيذ الميزانية دون تفعيل هذا الدور، الذي يتقاطع مع مهام
الآمرين بالصرف ومؤسسات الرقابة على حد سواء. ويتجلى ذلك في كونه مسؤولاً عن العمليات
التقنية والقانونية المرتبطة بالحسابات العمومية، من تسجيل المعاملات إلى مراقبة صحتها
وإعداد الوثائق المحاسبية، فضلاً عن التزامه الدقيق بضوابط المحاسبة العمومية المنصوص
عليها قانوناً.
وتتمثل أهمية هذه الدراسة في كونها تتناول موقع المحاسب العمومي داخل النسق
المالي المغربي، وتسلط الضوء على الإطار القانوني والتنظيمي الذي يُحكم مهامه، وعلى
مختلف التحديات المهنية التي تواجهه في ضوء التحولات الرقمية والمؤسساتية. كما تسعى
إلى إبراز العلاقات التفاعلية بين المحاسب العمومي وباقي المتدخلين في تنفيذ الميزانية
العامة، وعلى رأسهم الآمرون بالصرف ومجالس الرقابة المالية، وذلك في سبيل ضبط العمليات
المحاسبية وتحقيق النجاعة المالية.
وقد ارتفعت أهمية هذا الدور خاصة في ظل التحولات التي يعرفها القطاع العمومي،
مثل الرقمنة، والإصلاح الجبائي، وتعزيز مراقبة النفقات العمومية، مما يفرض مراجعة مستمرة
للآليات القانونية والتقنية المؤطرة لمهام المحاسب العمومي، وذلك لضمان التلاؤم مع
مقتضيات الحكامة الجيدة والشفافية المالية.
ونظراً لكون هذه الوظيفة تتطلب جمعاً بين الكفاءة التقنية، والانضباط الأخلاقي،
والقدرة على التأويل القانوني، فإن الإطار التشريعي المغربي منحها خصوصية من حيث التعيين
والمسؤولية والمتابعة، بحيث بات المحاسب العمومي فاعلاً مركزياً في صيانة المال العام،
وفي ضمان حسن سير المالية العمومية.
إشكالية البحث
ما موقع المحاسب العمومي في النظام المالي المغربي؟ وما هي اختصاصاته القانونية
والرقابية، وكيف تضمن التشريعات المالية المغربية فعالية عمله وحمايته من الانزلاقات؟
المحور الأول: التأصيل المفاهيمي والقانوني لمؤسسة المحاسب العمومي
1. تعريف المحاسب العمومي
يشكل تحديد مفهوم المحاسب العمومي الخطوة الأولى لفهم وظيفته المحورية داخل
النظام المالي المغربي. فعلى المستوى القانوني، يُعرّف المحاسب العمومي بموجب المادة
2 من القانون رقم 61.99 بمثابة مدونة المحاكم المالية على أنه "كل موظف أو عون
مؤهل لأن ينفذ باسم إحدى هيئات الدولة أو الجماعات المحلية وهيئاتها وكذا المؤسسات
والمقاولات العمومية الخاضعة للمراقبة المالية للدولة، عمليات المداخيل أو النفقات
أو التصرف في السندات".
ويُعزز هذا التعريف بمقتضيات المرسوم الملكي رقم 330.66 بشأن المحاسبة العمومية،
الذي ينص على أن المحاسب العمومي يتحمل مسؤولية مباشرة في تسجيل وتنفيذ جميع العمليات
المالية التي تمر عبر الحسابات العمومية، ويخضع في ذلك لقواعد صارمة مرتبطة بالمشروعية
والتوثيق والتحقق من صحة المعطيات المالية.
ولا يقتصر دور المحاسب العمومي على المهام المحاسبية الروتينية، بل يتعداه
ليشمل بعداً رقابياً من خلال فحص الوثائق المحاسبية، ومطابقة أوامر الدفع مع القوانين
والاعتمادات المرصودة، والامتناع عن تنفيذ أية عملية مالية تشوبها شبهة الخرق القانوني.
وهذا ما يجعله يشكل ضابط توازن داخل سلسلة تنفيذ الميزانية، مانعاً لأي انزلاق في صرف
المال العام دون سند مشروع.
وفي السياق الفقهي، يتميز مفهوم المحاسب العمومي في المغرب بكونه يجمع بين
صفتي: "الفاعل المالي" و"الضامن القضائي"، فهو من جهة ينفذ العمليات
المالية، ومن جهة أخرى يُسأل قضائياً أمام المجلس الأعلى للحسابات والمجالس الجهوية
للحسابات في حالة الإخلال بواجباته المهنية. وتظهر أهمية هذا الدور في أن المحاسب لا
يعمل في فراغ، بل في نظام قانوني ومؤسساتي متشابك، يفرض عليه الامتثال لقواعد دقيقة
تمس جوهر المال العام، وتُخضعه لمبدأ المسؤولية الفردية والمساءلة القضائية.
2. شروط تعيين المحاسب العمومي
إن خصوصية وظيفة المحاسب العمومي تنعكس بوضوح في شروط التعيين. فالمبدأ العام
هو أن هذا التعيين يتم بقرار من وزير الاقتصاد والمالية أو من يفوض له ذلك، وفقاً للمادة
25 من المرسوم الملكي 330.66. ولا يمكن ممارسة المهام إلا بعد اجتياز مرحلة التكوين
والمصادقة الإدارية، تماشياً مع متطلبات النزاهة والكفاءة والالتزام بالسر المهني.
أما بالنسبة لبعض المناصب العليا في هذا المجال، كمنصب الخازن العام للمملكة
أو محاسبي السفارات والقنصليات، فيتم تعيينهم بموجب مرسوم في المجلس الوزاري، بناءً
على اقتراح من رئيس الحكومة ومصادقة المجلس الوزاري، تطبيقاً للفصل 92 من دستور
2011.
ويُشترط في المحاسب العمومي أن يكون مؤهلاً من الناحية القانونية والتقنية،
وأن يتوفر على سجل نظيف خالٍ من السوابق المهنية أو القضائية، نظراً لأن أي خطأ في
الحسابات العمومية قد يترتب عليه عجز مالي يؤدي إلى متابعة قضائية أو إدارية.
3. خصائص المحاسب العمومي
تتجلى خصوصية المحاسب العمومي من خلال ثلاثة أبعاد أساسية:
الشرعية القانونية: جميع العمليات التي يباشرها المحاسب
العمومي تخضع لنصوص تنظيمية وتشريعية واضحة، سواء على مستوى التقييد المحاسبي أو مراقبة
الأوامر بالصرف. إذ يُلزم القانون المحاسب بعدم تنفيذ أي عملية تخالف القوانين الجاري
بها العمل، ولو وردت من مسؤول أعلى منه رتبة.
المسؤولية الفردية: يتحمل المحاسب العمومي مسؤولية فردية
عن العمليات التي ينجزها، ولا يمكنه التذرع بتعليمات رئاسية لتبرير مخالفة القوانين
المالية. وتبقى هذه المسؤولية قائمة حتى بعد إنهاء مهامه، طالما أن الاختلالات ناتجة
عن فترة تحمله للمسؤولية.
الاستقلالية الوظيفية النسبية: رغم أن المحاسب العمومي يخضع إدارياً
لسلطة وزارة المالية، إلا أن له سلطة رقابية في الامتناع عن تنفيذ العمليات التي يشتبه
في عدم قانونيتها، مما يجعله يتمتع بهامش من الاستقلالية الإجرائية. وهذا ما يجسد مبدأ
"الفصل الوظيفي" بين المحاسب والآمر بالصرف، أحد المبادئ الأساسية في المالية
العمومية.
المحور الثاني: أصناف المحاسبين العموميين واختصاصاتهم
1. تصنيف المحاسبين العموميين
ينقسم المحاسبون العموميون في النظام المالي المغربي إلى محاسبين رئيسيين
ومحاسبين ثانويين، وذلك بحسب طبيعة المهام الموكولة إليهم، ومجال اختصاصهم، والجهة
التي يخضعون لها إدارياً ورقابياً.
أ) المحاسبون الرئيسيون
يُعتبر المحاسبون الرئيسيون أهم الفاعلين في تنفيذ الحسابات العمومية على
الصعيد الوطني. فهم مسؤولون عن العمليات المحاسبية التي تُنجز بشكل مباشر، أو تُجمَّع
مركزياً من طرف محاسبين آخرين تابعين لهم. ويُفرض عليهم، بموجب المادة 33 من القانون
رقم 62.99، أن يقدموا حساباتهم سنوياً للمجالس الجهوية للحسابات أو للمجلس الأعلى للحسابات
حسب طبيعة المؤسسة التي يعملون بها.
ومن أبرز الأمثلة على هؤلاء:
الخازن العام للمملكة: وهو أعلى محاسب عمومي، يُعيَّن بمرسوم،
ويتولى تنفيذ العمليات المالية المتعلقة بالميزانية العامة للدولة، والحسابات الخصوصية،
وميزانيات التسيير، كما يشرف على الدين العمومي، ويقوم بتجميع نتائج إصدار القروض ومراقبة
تدبير الخزينة العامة.
القباض (قباض الخزينة): يتولون تحصيل الضرائب المباشرة (كالضريبة
على الشركات، والضريبة العامة على الدخل)، والرسوم لصالح الدولة أو الجماعات الترابية.
كما يقومون بتنفيذ النفقات المعتمدة من الآمرين بالصرف التابعين لنفس المجال الترابي.
العون المحاسبي المركزي للتمثيليات الدبلوماسية بالخارج: يختص هذا الصنف في إنجاز
العمليات المالية الخاصة بالسفارات والقنصليات المغربية، ويشرف على أعوان محاسبة فرعيين
يقدمون له حساباتهم سنوياً.
ب) المحاسبون الثانويون
يُكلَّف المحاسبون الثانويون بتنفيذ عمليات مالية محلية أو قطاعية، وتُعتبر
مهامهم تنفيذية بطبيعتها، بحيث يقومون بتوثيق العمليات المالية ومسك السجلات، ثم إرسالها
إلى محاسب رئيسي للبت النهائي في حساباتها. غير أن ذلك لا يعفيهم من المسؤولية القانونية،
حيث يظلون خاضعين للمساءلة المباشرة أمام المجلس الأعلى أو المجالس الجهوية للحسابات.
ويمكن أن نجد هذه الفئة لدى المؤسسات التعليمية (خاصة رؤساء المصالح الاقتصادية
بالمؤسسات الكبرى)، أو في بعض المراكز الجهوية للاستثمار، أو المندوبيات الوزارية.
2. الاختصاصات القانونية للمحاسب العمومي
تتحدد اختصاصات المحاسب العمومي وفق المرسوم الملكي 330.66 في تنفيذ العمليات
المالية التالية:
أ) التنفيذ الحسابي للنفقات
يُناط بالمحاسب العمومي مسؤولية تنفيذ النفقات العمومية، ويشمل ذلك:
التحقق من صحة النفقة: التأكد من أن الخدمة أو السلعة أو الأشغال
قد أُنجزت فعلاً، وأن المستندات المثبتة سليمة من الناحية الشكلية والموضوعية.
مطابقة الأمر بالصرف مع الاعتمادات المرصودة: لا يمكن تنفيذ أي أمر بصرف
إلا إذا وُجدت اعتمادات مالية كافية له، وذلك احتراماً لمبدأ التوازن المالي.
مراقبة التأشيرات المسبقة للمراقب المالي: يشترط وجود تأشيرة على الالتزام
بالنفقة من طرف المراقب المالي، حسب نوع المؤسسة والإدارة المعنية.
الدفع الفعلي للمبلغ: يقوم المحاسب بإصدار أمر الأداء وتحويل
الأموال لفائدة الجهة المستفيدة، بعد التأكد من استيفاء الشروط كافة.
ويعد تنفيذ النفقات أحد أهم مواضع المسؤولية القانونية للمحاسب العمومي، حيث
يُمنع عليه أداء أي مبلغ دون سند مشروع، ما يفرض عليه توثيق كل العمليات بدقة، وامتلاك
مرجعية قانونية لكل مبلغ يُصرف.
ب) التنفيذ الحسابي للمداخيل
يتولى المحاسب العمومي مسؤولية تحصيل الموارد المالية، وتوثيقها في السجلات
الرسمية. وتتجلى مهامه في هذا الإطار في:
-استلام أوامر المداخيل من الآمرين بالصرف، مع ضرورة التأكد من مطابقتها للإجراءات
القانونية.
-مراقبة السندات المثبتة للديون، مثل العقود أو الاتفاقيات أو الفواتير، خاصة
في مداخيل المؤسسات العمومية التجارية أو الخدماتية.
-تحصيل الأموال فعلياً سواء نقداً، أو عن طريق الحجز، أو الاقتطاع من المصدر،
أو الأداء البنكي.
-تسجيل المداخيل في السجلات وفق المعايير المعتمدة في دليل المحاسبة العمومية،
مع تسليم الوثائق المثبتة للقبض.
ويخضع تحصيل المداخيل لأجال محددة ومراقبة مستمرة من طرف الخزينة العامة والمجالس
الرقابية، مما يجعل المحاسب ملزماً بالحفاظ على الوثائق والسندات لفترة لا تقل عن عشر
سنوات، بحسب القانون المالي.
المحور الثالث: المحاسب العمومي والحكامة المالية
في إطار البناء المؤسساتي للدولة الحديثة، أصبحت الحكامة الجيدة شرطاً ضرورياً
لترسيخ ثقافة المساءلة وضمان استدامة المالية العمومية. وقد تبنى المغرب هذا التوجه
من خلال إقرار دستور 2011 الذي كرّس مبادئ ربط المسؤولية بالمحاسبة، الشفافية، وتحديث
الإدارة العمومية.
وبين مختلف المتدخلين في مسلسل تنفيذ الميزانية العمومية، يبرز المحاسب العمومي
كفاعل مركزي يُترجم التزامات الدولة المالية إلى عمليات ملموسة خاضعة للمراقبة، ومبنية
على مبدأ التوازن بين الفعالية والشرعية. فدوره لا يقتصر على تنفيذ الأوامر المالية،
بل يمتد ليشمل مسؤولية ضمان المشروعية المالية، والامتثال الصارم لقواعد التدبير العمومي
السليم.
1. ارتباطه بالآمر بالصرف
رغم أن الآمر بالصرف والمحاسب العمومي يمثلان طرفين في سلسلة تنفيذ الميزانية،
فإن العلاقة بينهما تُبنى على مبدأ الفصل الوظيفي، الذي يُعد إحدى أهم ضمانات الحماية
من التواطؤ أو الانزلاقات المالية. فالآمر بالصرف مسؤول عن اتخاذ القرار الإداري بإنفاق
المال العام أو استخلاصه، بينما يُكلّف المحاسب العمومي بالتنفيذ المالي الفعلي لهذا
القرار، ولكن بعد التحقق من مدى احترامه للضوابط القانونية.
ويُلزم القانون المغربي المحاسب العمومي بالتقيد بعدم تنفيذ أي أمر بالصرف
يشوبه خلل شكلي أو جوهري، حتى لو صدر عن سلطة رئاسية. ويُعد هذا الامتناع إجراءً قانونياً
يهدف إلى حماية المال العام، لا تمرداً على التسلسل الإداري. وقد نص المرسوم الملكي
330.66 على أن المحاسب مسؤول قانوناً عن أي صرف يتم خارج الضوابط، حتى وإن كان بأمر
من سلطة عليا.
كما يُشترط تطابق الحسابات الممسوكة من طرف المحاسب العمومي مع تلك التي يدلي
بها الآمر بالصرف، لا سيما خلال عمليات مراقبة وتدقيق الحسابات من طرف المجلس الأعلى
للحسابات. ويُعد هذا التطابق مؤشراً على سلامة الأداء المالي، وعلى انتظام الحسابات
العمومية.
2. دور المحاكم المالية
يشكل إخضاع المحاسب العمومي للرقابة القضائية التي تمارسها محاكم المالية
إحدى أبرز آليات الحكامة الجيدة، التي تهدف إلى تحقيق المساءلة المؤسساتية والحد من
مظاهر سوء التدبير أو الغش المالي.
وينص الفصل 147 من الدستور المغربي على أن المجلس الأعلى للحسابات هو الهيئة
العليا لمراقبة المالية العامة للمملكة، ويُسند له دور تقييم كيفية استخدام الأموال
العامة من طرف مختلف الفاعلين العموميين، بمن فيهم المحاسبون العموميون.
ويخضع المحاسب العمومي سنوياً لإلزام تقديم الحساب، حيث يُلزمه القانون رقم
62.99 بموافاة المجلس الأعلى أو المجالس الجهوية للحسابات بجميع الوثائق المثبتة التي
توضح مآل الموارد والنفقات خلال السنة المالية.
في حالة وجود اختلال أو "عجز مالي"، تُفعَّل المسطرة القضائية المنصوص
عليها في المواد من 38 إلى 40 من نفس القانون، حيث تتم مؤاخذة المحاسب العمومي شخصياً
إذا ثبتت مسؤوليته في ضياع الأموال العمومية، سواء نتيجة إهمال أو تواطؤ. وتتراوح العقوبات
بين الغرامة والتصريح بالعجز، وقد تصل إلى العزل من الوظيفة في بعض الحالات الخطيرة.
وقد أظهرت تقارير المجلس الأعلى للحسابات في السنوات الأخيرة عدداً من الاختلالات
المهنية المرتكبة من طرف بعض المحاسبين العموميين، تراوحت بين ضعف التوثيق، وتجاوز
الاختصاص، والتهاون في التحصيل، وهو ما أدى إلى إصدار أحكام قضائية في حقهم، بعضها
بغرامات مالية، وأخرى بعزل إداري.
وبالإضافة إلى الطابع الزجري، فإن الرقابة المالية التي تمارسها المحاكم المالية
تُعد أيضاً أداة لتقويم الأداء وتعزيز الفعالية. فهي توفر توصيات لتجويد عمل المحاسب
العمومي، وتساهم في تحديث الممارسات المحاسبية، خاصة في سياق التحول الرقمي وتبني أدوات
التدقيق الإلكتروني.
المحور الرابع: تحديات تحديث وظيفة المحاسب العمومي
عرفت وظيفة المحاسب العمومي في العقود الأخيرة تحولات جمة، فرضتها التطورات
التكنولوجية، والضغوط الاجتماعية نحو ترشيد النفقات، والانتقال من التدبير الإداري
التقليدي إلى تدبير مالي عصري يقوم على النتائج والمساءلة. وقد أصبح تحديث هذه الوظيفة
شرطاً أساسياً لضمان جودة التدبير العمومي، وتحقيق النجاعة المالية المنشودة.
1. الرقمنة والتحول الرقمي
من أبرز التحديات التي تواجه المحاسب العمومي اليوم هي الرقمنة، التي أصبحت
خياراً استراتيجياً للدولة المغربية في إطار إصلاح الإدارة العمومية. وقد أطلقت وزارة
الاقتصاد والمالية خلال السنوات الأخيرة مجموعة من البرامج الرامية إلى تحديث المساطر
المالية والمحاسبية، منها:
نظام GID – Gestion Intégrée de la Dépense
أطلقته الخزينة العامة للمملكة (TGR) بهدف إرساء نظام موحّد لتتبع نفقات الدولة إلكترونيًا، من مرحلة الالتزام
إلى الأداء، بنهج آني وفعّال.
يُعتبر أداة إدماجية بين مختلف الفاعلين: الآمرون بالصرف، مراقبون ماليون،
محاسبون عموميون، بهدف تبسيط الإجراءات وتقليص التكاليف والحد من التكرار في العمليات.
يغطي المشروع نطاقًا واسعًا، منذ بدايته عام 2005 حتى الشروع في التعميم عبر
النشر الإلكتروني والتكوين المستمر.
مشروع GFMIS – Government Financial Management Information System
يُعرف عالميًا بمجموعة من المعايير لإدارة مالية الحكومات إلكترونيًا (Mass Budgeting, Treasury,
Accounting, Reporting).
المغرب مُدرَج ضمن تقرير PEFA ووثائق البنك الدولي كبلد يسعى إلى تنفيذ GFMIS كنظام رقمي مركزي.
المشروع في طور التنفيذ بهدف دمج الميزانية والمحاسبة والتحصيل والتقارير
ضمن منصة واحدة متقدمة تقنيًا.
غير أن إدماج هذه الأنظمة يتطلب من المحاسب العمومي التوفر على كفاءات رقمية
متقدمة، وفهماً دقيقاً لتكنولوجيا المعلومات والاتصال. كما يطرح تحدي حماية المعطيات
المالية الحساسة، وضمان أمن قواعد البيانات، والتصدي للهجمات الإلكترونية التي قد تهدد
سلامة المال العام.
ويلاحظ أن بعض المحاسبين العموميين، خاصة في المناطق القروية أو الجماعات
الترابية الصغيرة، يواجهون صعوبات في استخدام الأنظمة المعلوماتية الحديثة بسبب ضعف
التكوين أو غياب البنية التحتية الرقمية، مما يبرز تفاوتاً في الفعالية بين الإدارات
المركزية واللامركزية.
2. التكوين المستمر وبناء القدرات
إلى جانب التحديات التقنية، يواجه المحاسب العمومي الحاجة المستمرة إلى التكوين
القانوني والمالي، بالنظر إلى التطور المتسارع في النصوص التشريعية والتنظيمية المرتبطة
بالمحاسبة العمومية. وتظهر هذه الحاجة بجلاء في:
-تعدد مصادر القانون المالي (دستور، قوانين تنظيمية، مراسيم، دوريات...)؛
-ظهور مفاهيم جديدة في التدبير كالمحاسبة التحليلية، ومراقبة النتائج، والتدقيق
الداخلي؛
-تنامي التوجه نحو اعتماد المعايير الدولية للمحاسبة في القطاع العام IPSAS.
وقد دعت وزارة الاقتصاد والمالية مراراً إلى تحديث منظومة التكوين الموجهة
للمحاسبين العموميين، وتطوير مراكز التكوين المالي الجهوي، خاصة على مستوى الجهات الجديدة
للمملكة. كما أوصى المجلس الأعلى للحسابات في تقاريره السنوية بضرورة إرساء مسار مهني
واضح يعتمد على تكوين مستمر مشفوع بتقييم دوري للكفاءة.
3. المسؤولية والتعرض للمساءلة القانونية
يتحمل المحاسب العمومي مسؤولية قانونية كبيرة، تختلف عن باقي موظفي الإدارة
العمومية، وذلك لطبيعة الأموال التي يديرها: فهي أموال عامة، خاضعة لمراقبة مزدوجة
داخلية وخارجية. وتتجلى هذه المسؤولية في:
-ضرورة احترام الضوابط القانونية في كل عملية مالية؛
-حفظ المستندات والسجلات بطريقة قانونية ولمدة محددة؛
-الامتناع عن تنفيذ أوامر غير مشروعة ولو صدرت عن سلطة أعلى؛
-الإدلاء بالحسابات السنوية للمجلس الأعلى أو المجالس الجهوية للحسابات؛
-الانتباه إلى مخاطر التلاعب، أو قبول وثائق مزيفة، أو تسجيل عمليات دون سند.
وقد نصت المادة 36 من المرسوم الملكي 330.66 على أن المحاسب العمومي يبقى
مسؤولاً عن العمليات التي أشرف عليها حتى بعد مغادرته المنصب، إلى حين التحقق القضائي
من سلامة حساباته. ويُفعل هذا المبدأ في حالات "التصريح بالعجز" التي تترتب
عنها متابعات قضائية أمام المحاكم المالية.
كما أظهرت تقارير المجلس الأعلى للحسابات عدة اختلالات ناتجة عن ضعف اليقظة
من طرف بعض المحاسبين، أو سوء التقدير المالي، مما أدى إلى تعرضهم لغرامات، أو مطالبتهم
بتعويض عن الأموال المفقودة، أو التصريح بعجز محاسبي.
خاتمة
يُستخلص من التحليل المركب لمحاور هذا البحث أن المحاسب العمومي يُعدّ أحد
الأعمدة المؤسسية الحاسمة لضمان استقرار النظام المالي للدولة، ونجاعة تدبير الميزانية
العمومية. فمن خلال ما أظهرته القوانين التنظيمية، والاجتهادات القضائية، والممارسات
الإدارية، يتأكد أن هذه الوظيفة ليست تقنية صرف، بل هي ممارسة تتقاطع فيها المسؤولية
القانونية، والمحاسبة الأخلاقية، والرقابة المؤسساتية.
لقد تبيّن أن وظيفة المحاسب العمومي في السياق المغربي تتسم بخصوصية ناتجة
عن التلاقي بين بعدين أساسيين:
البعد القانوني، من خلال الإطار التشريعي المحكم الذي
يحدد بدقة مسؤولياته، وشروط تعيينه، وأوجه خضوعه للمساءلة، سواء أمام القضاء المالي
أو السلطة الرئاسية؛
والبعد التدبيري، من حيث مساهمته في تنفيذ الميزانية،
وتوثيق العمليات المحاسبية، وتحقيق التوازن بين الموارد والنفقات، وهو ما يجعله في
قلب دورة الحياة المالية للإدارة العمومية.
كما أن التحديات الراهنة، وفي مقدمتها التحول الرقمي، وتعقد البيئة التشريعية،
وارتفاع سقف الرقابة، تضع المحاسب العمومي أمام اختبار مزدوج: من جهة، ضرورة التكيف
مع مستجدات العصر، ومن جهة أخرى، المحافظة على الصرامة القانونية في وجه ضغوطات محتملة
داخل الإدارة أو خارجها.
وقد أظهر التحليل أن هناك تفاوتاً في أداء المحاسبين العموميين بين القطاعات
الوزارية والإدارات الترابية، يعود غالباً إلى التكوين غير الموحد، أو غياب أدوات العمل
الحديثة، أو ضعف التنسيق بين الآمرين بالصرف والمحاسبين. وهو ما يستدعي:
-مراجعة سياسة التكوين، بإقرار مسارات مهنية تراعي التخصص المالي والقانوني،
وتكثيف الدورات التكوينية المرتبطة بالرقمنة، والمحاسبة التحليلية، وتدبير المخاطر؛
-تعزيز التنسيق بين المحاسب العمومي والآمر بالصرف عبر تنظيم دورات مشتركة
للتدبير الميزانياتي؛
-تسريع تعميم الأنظمة المعلوماتية المحاسبية على جميع مستويات الإدارة، وتوفير
الدعم التقني واللوجستيكي لتقليص الفوارق بين المركز والجهات؛
-تحديث الإطار القانوني، بتقريب مدونة المحاسبة العمومية المغربية من المعايير
الدولية، خاصة IPSAS (المعايير الدولية
للمحاسبة في القطاع العام.
من جهة أخرى، فإن تعزيز الحكامة المالية في المغرب لن يتم إلا بإعادة الاعتبار
للمحاسب العمومي، ليس فقط من حيث الاعتراف القانوني، بل أيضاً من حيث تحسين ظروف اشتغاله،
وتوفير حماية قانونية له، بما يضمن له أداء واجبه في استقلالية ومسؤولية.
وبالتالي، فإن مستقبل وظيفة المحاسب العمومي يرتبط إلى حد كبير بقدرة الدولة
على المواءمة بين الرقمنة والشفافية، وبين القانون والفعالية، وبين مراقبة المال العام
وضمان حسن استعماله.
مقترحات لبحوث مستقبلية
-دراسة ميدانية مقارنة بين أداء المحاسبين العموميين في الجماعات الترابية
والقطاعات الوزارية؛
-تحليل العلاقة بين نجاعة المراقبة القضائية والتكوين القانوني للمحاسب العمومي؛
-تقييم أثر الرقمنة على تقليص الأخطاء المحاسبية وتقوية الشفافية المالية.
قائمة المصادر
-دستور المملكة المغربية. (2011). الجريدة الرسمية، عدد 5964 مكرر، بتاريخ
30 يوليوز 2011.
-وزارة الاقتصاد والمالية. (2023). دليل المحاسبة العمومية. الرباط: مطبعة
وزارة الاقتصاد والمالية.
-المجلس الأعلى للحسابات. (2022). التقرير السنوي. الرباط: المجلس الأعلى للحسابات.
-القانون رقم 62.99 بمثابة مدونة المحاكم المالية. (2002). الجريدة الرسمية،
عدد 5022، بتاريخ 30 دجنبر 2002.
-المرسوم الملكي رقم 330.66 الصادر في 21 أبريل 1967 بمثابة قانون المحاسبة
العمومية. (1967). الجريدة الرسمية، عدد 28.