📁 تدوينات جديدة

أصداء الفكر... صوت العقل في زحمة التفاهة | أحمد الشهبي

أصداء الفكر... صوت العقل في زحمة التفاهة | أحمد الشهبي

أحمد الشهبي | المغرب 

في زنقة ضيقة بحي شعبي، يجلس شاب عاطل أمام مقهى مهترئة، يتصفح هاتفه بإبهام ثقيل، يضحك على فيديو تافه، ويشتم السياسة كلما صادف منشوراً غاضباً، ويمرر جُملاً من نوع "كلمات عميقة" دون أن يقرأ سطرًا واحدًا. على بعد أمتار، صوت جدلية حادة بين أستاذ متقاعد وبائع سجائر حول ثمن الخبز والعدالة الاجتماعية، بينما المثقفون ـ إن وُجدوا ـ صاروا إما ضيوفاً سابقين في برامج لم تعد تُبث، أو كتبة يبيعون مقالاتهم لمن يقرأ العناوين فقط. إنه زمن الصخب الخفيف، حيث يحتل الحمقى صدارة المشهد، وتُطرد الفكرة من السوق كما يُطرد الحرفي من حرفةٍ كسدت. في مثل هذا الزمن، حين تبدو الثقافة أشبه بمائدة منسية في عرس صاخب، تولد منصات تُراهن على ما تبقى من وعي، وتكتب كما لو أنها تُقاوم الغرق. ومن بين هذه المبادرات، تطل مجلة "أصداء الفكر" كعلامة فارقة، لا تزاحم ولا تصرخ، لكنها تشتغل بصمت، وتبني حجراً فوق حجر في صرح الثقافة الرقمية المغربية.

هذه المجلة، لمن لم يسمع بها بعد، ليست نسخة رقمية من مجلة قديمة، ولا محاولة لتقليد منصات تبيع الكلام السهل، بل هي ورشة فكرية دائمة، مساحة تُنصت إلى الأفكار لا إلى الضجيج، وتحتفي بالكلمة الدقيقة لا بالصراخ المجاني. كل شيء فيها يوحي بأنها خُلقت لتبقى، لا لتُشهر ولا لتُستهلك. مقالاتها لا تُكتب من أجل الربح، بل من أجل أن تُحدث فرقًا، ولو صغيرًا، في ذهن قارئ منهك يبحث عن معنى وسط ركام اللغة المستعملة. "أصداء الفكر" ليست مجرد اسم، بل نية. نية في الترميم، في التنوير، في إعادة ترتيب الأسئلة المهجورة، في لحظة يُقايض فيها الناس العمق بالضحك، ويُستبدل النقد بالتصفيق.

في نصوصها النقدية، لا تُخاطب المجلة القارئ من فوق، ولا تتملقه، بل تحاوره. تُشبه طاولة مستديرة فكرية، يكتب فيها الأكاديمي والشاعر والمترجم والهاوي، دون أن يشعر أحدهم أنه أقل قيمة من الآخر. المهم هو المضمون. المهم أن لا تُكرَّر الفكرة، ألا تُستعمل اللغة كزينة بل كأداة حفر. من قضايا الهوية المهتزة، إلى الفلسفة التائهة بين النخبة والشارع، إلى أسئلة التربية التي تسكن كل بيت مغربي، تشتبك المقالات المنشورة بما هو يومي دون أن تسقط في التبسيط، وتُحلّق في المجرد دون أن تُصبح نُزُقًا نخبوياً. إنها تكتب بفكر متجذر في الأرض، لكنه ينظر نحو الأفق.

وإذا كان كثيرون قد آمنوا بأن المجلات ماتت، فإن "أصداء الفكر" تُعيد تعريف المجلة نفسها. ليست ورقًا ولا إعلانات ولا ملاحق، بل مشروع مستمر، منصة تعيد للتفكير مكانته، وللكتابة وظيفتها، وللنقاش العمومي روحه التي خنقتها الرداءة. تحرِّر الثقافة من طابعها الاحتفالي الموسمي، وتمنحها ما تستحق: الاستمرارية، والنَفَس الطويل، والانتماء اليومي. ليست المجلة حيادية، ولا تدّعي الموضوعية الفارغة، بل لها موقف من التفاهة، من الاستسهال، من الشعبوية، من ثقافة "ما بعد الحقيقة". إنها تضع الكلمة في مكانها، لا تفرّط فيها، ولا تبتذلها، ولا تحوّلها إلى وسيلة للترند. لذلك تبدو كتاباتها وكأنها تُصاغ تحت ضوء خافت، وفي ظل قلق مشروع، يُشبه قلق الذين يكتبون لأنهم لا يستطيعون التواطؤ مع الصمت.

ومع ذلك، ليست المجلة نخبويّة ولا مغلقة، بل منفتحة على الأقلام الجديدة، على الوجوه التي لم تحصل بعد على بطاقة عبور للعالم الثقافي. إنها تؤمن بأن الفكر لا يحتاج وساطة، ولا يحتاج اسمًا كبيرًا ليولد، بل يحتاج فقط فرصة، واحترامًا، وقراءً يُقدّرون الكلمة. وهي بهذا المعنى، ليست فقط فضاءً للنشر، بل مدرسة غير معلنة في الكتابة، في التكوين الذاتي، في الإيمان بأننا نستطيع التفكير بشكل جماعي، خارج وصاية الأسماء، وخارج سلطة المؤسسات. من يقرأ المجلة بتمعن، يشعر أنه يشارك في ورشة فكرية مستمرة، لا تُغلق أبوابها ولا تُحدد مقاعدها.

ومن جهة أخرى، لا تنحبس المجلة في محليّة معزولة، بل تحاور التجارب الأخرى، تنفتح على الأدب العالمي، تُترجم، تُراجع، وتُبني جسوراً صامتة بين المغرب والعالم. لكنها لا تفعل ذلك باندهاش ثقافي، بل بندية واعية، تُدرك خصوصية السياق، وتُؤمن أن الكونية لا تُشترى، بل تُنتج. ولذلك، يندر أن تجد فيها نصوصًا مترجمة رديئة أو منسوخة بتسرع، بل هناك دائمًا عناية، مراجعة، وتقاطع مع ما يشبه "الذوق الفكري العام" الذي تحاول المجلة ترسيخه.

قد لا تملك "أصداء الفكر" دعمًا مؤسساتيًا، ولا جمهورًا واسعًا بعد، لكنّها تشتغل كأنها مجلة وطنية، تُخاطب القارئ كما لو أنه قارئ واعٍ، لا يحتاج إلى جرعات إثارة، ولا إلى لغة منحطة ليهتم. وهذا في حد ذاته، موقف ثقافي، بل موقف أخلاقي. إنها تُعيد الثقة في القارئ، وتُعيد التوازن إلى العلاقة بين الكاتب والمتلقي. لا تُغريه، لا تستدرجه، بل تحترمه. وهذا نادر.

لا تحتاج المجلة إلى الشفقة، بل إلى الحُب. تحتاج إلى قراء يلتفتون، إلى كتاب يغامرون، إلى مثقفين يُشاركون لا يُراقبون. لأن المجلات لا تموت حين تُغلق، بل حين يُهملها من كُتبت من أجلهم. ومجلة مثل "أصداء الفكر" تستحق أن تُقرأ، لأنّها لا تكتب لتُبهر، بل لتُفكّر. وفي زمن الفُرجة، هذه جرأة، وربما... معجزة.

تعليقات