📁 تدوينات جديدة

مسرح الطفل: رسائل وقِيَم | بقلم: شارلوت الشماس

مسرح الطفل: رسائل وقِيَم | بقلم: شارلوت الشماس
 السويد | شارلوت الشماس

أكثر ما يشغلُ اهتمامي في العمل التوجيهي هو التركيز على مفهوم البعد الأخلاقي لدى الطفل. أحترمُ قيَمه وشروطه، وبالتالي ينطوي أسلوبي في التعامل معه على احترامي لتلكَ القيم والشروط وصقل فكره بالتوعية والمعرفة.

عملي مع الطفل يعني تواصل يومي مع إنسان ذو كيان مستقل، هذا العمل يتطلب دراسة أكاديمية كما يحتاج إلى درجة عالية من المهنية والاحترافية. البلدان المتقدمة علمياً وفكرياً تُقَدِّس مهمة بناء الطفل وتوليه الاهتمام الأكبر، من خلال تأهيل ومشاركة الكوادر التربوية في اللقاءات والمحاضرات والأبحاث العلمية التي تتمحور حول الطفل.   

"قالوا عني أنني كنتُ أحلم، وما قالوه صحيح. لأنني وبسبب حلمي استطعتُ أن أُنجِزَ الكثير المختلِف عن الآخرين الذين لم يحلموا بغير الأشياء العادية"، بهذه العِبارة تم افتتاح العرض المدرسي لمسرح الطفل.

 لطالما كنت مولَعة بتجربة التوجيه في المسرح المدرسي، وكنتُ ألاحظ أثناء التدريبات كيف يختلف أسلوب إلقاء الطفل بين الارتجال وبين النصوص المحفوظة بعناية. لذا حاولتُ التعمق أكثر بالموضوع من خلال كتاب بعنوان:
  Ge dockan liv/ Om barn och dockteater 
ويعني: امنَح حياةً للدمية/ حول الطفل ومسرح الدمى
الكاتبة: Karin Neuschütz وتعمل موجهة تربوية في المسرح المدرسي.

اكتشفتُ أثناء قراءتي للكتاب أن المسرح ليس تجربة رائعة فقط وعلى كل طفل أن يعيشها، لا بل تكمن أهميته فيما تُكسِبه هذه التجربة للطفل من خبرة التدرب على اكتشاف الذات. 

في إحدى البروفات روَت الموجهة Karin لأحد الأطفال أنه حين كان المؤلف الموسيقي Mozart فتىً صغيراً يشاهد عرضاً لمسرح الدمى، كان حينها متحمساً جداً في مديح ذلك العرض، لكن كان له اعتراضاً وحيداً وهو أن ما ينقص المسرح هو الموسيقا. فبدأت الموجهة تقارن مع الطفل بين المشاهد المدعَّمَة بالموسيقى، وبين أهمية الصمت والهدوء التام في مشاهد أُخرى.

يتعلم الطفل من خلال المسرح مفهوم الرسائل التي تحملها الموسيقا وألوان الإضاءة، فمثلاً اللون الأزرق في المشهد يشرح الحقيقة والسلام الداخلي. يربط الطفل اللون بروح المشهد فيفهم الرسالة من خلال اللون.

لم تتفاجَئ الكاتبة أثناء تدريبات الأطفال من تساؤلاتهم الفلسفية عن الحياة والموت، فالمسرح أسلوب تعليمي غير مباشر يُعلِّم الطفل أن يطرح الأسئلة ويستنتج ما بين الخيال والواقع. بعد عدة تدريبات عبَّر لها الطفل ذو الستة أعوام عن رأيه بقوله: "نحن البشر جميعاً نتألف من لون ولغة وموسيقا ".

تذكر الكاتبة بأن المسرح بلغته العالمية يجذب الصغير والكبير، وعلى خشبته يتدرب الطفل على تجربة الاستماع والمُشاهدة الدقيقة، فيحفِّزُ بذلك التفكير والخيال الإبداعي من خلال ألوان الأضواء والموسيقا والحكايات. 

بعد جهدٍ حثيث وعمل متواصل مع مجموعة من الأطفال أكدَت Karin أن للمسرح أثر بالغ في التطور اللغوي، وفي اتساع مخزون المفردات وقدرة الطفل على النطق السليم، من خلال استماعه إلى الراوي أو من خلال تدربه على إلقاء النصوص والحوارات.      

كما عمِلَت الكاتبة خلال التدريبات على تطوير كيفية لعب الطفل مع الدمى ودرجة إتقانه لتحريك الماريونيت، لاحظَت كيف يَلقى الطفل صعوبة في محاولته التركيز على تحريك يديه بين دميَتَين فكان يطلب التعاون مع طفل آخر، يقوم أحد الأطفال بتحريك خيوط الماريونيت بينما يقوم آخر بتحريك دمية اليد، وطفلان يقومان بالأداء الصوتي. هكذا توصلَت إلى تطبيق مفهوم التشاركية بشكل غير مباشر من أجل الحصول على أجمل ما يمكن تقديمه.

توسعَّت Karin Neuscühtz بمفهوم التضامن، بحيث يأخذ الطفل على عاتقه مسؤولية الآخر "رغبةً منه وليس رغماً عنه". يتم وضعه في اختبارات أخلاقية/ Etiska dilemman، مثلاً يتساءل الطفل: هل ينبغي علي أن أساعد زميلي لكي ينجح في مهمته في تقديم العرض؟ وبالتالي هل يؤدي ذلك إلى نجاحنا سوياً؟ 

ليست مهمة سهلة على الطفل بأن يختار بين نجاحه الشخصي وبين مساعدة الآخر. 

الأداء المسرحي يعزز مفهوم التضامن وثقة الطفل بنفسه، ويبدو ذلك جلياً في السلام الذي يشعر به الطفل حين ينجز عملاً هدفه النجاح العام وليس الفردي فقط. لذا تقوم المؤسسات التربوية في السويد على تبَني فكرة التضامن في الحياة المدرسية، والتي تؤثر على بناء شخصية الطفل وتنشئته في بيئة تشاركية. 

يتعلَّم الطفل من خلال المسرح مفاهيم متعددة، كمفهوم الأمل، خيبات الأمل، المفاجآت، الملل، الحزن، الفرح وغيرها الكثير. يتعلَّم أن عليه أن يعيش الحياة بكل أطيافها، يتساءل حول الحلول الممكنة وكيف باستطاعته أن يواجهها. 

وبما أن من حق الطفل أن يعيش الخيال في القصص، نقوم بتهيئته من خلال المشاهد الموجَّهَة للقاءات أبطال الأساطير، النصر، الهزيمة، التذمر، الفرح والحزن وغيرها من الحالات.   

لا يوجد أي شرط لمشاركة الطفل في المسرح، كلٌّ يؤدي ما باستطاعته. وبمجهود مشترك نحصل على أروع النتائج. لا ننسى أن كل طفل هو بطل، بطل الطبيعة وبطل الحرية. "ماذا يحتاج عالمنا منا؟" سؤال تم طرحه أثناء أحد التدريبات المسرحية، فأجاب أحد الأطفال: "يحتاج العالم مني إبداء احترامي أمام الطبيعة والإنسان والحيوان". 

أذكرُ مشهداً كنت قد شاركتُ به في أحد نشاطاتي المدرسية، تدور قصته حول لعبة كرة قدم ومسجل أهداف الفريق، ماذا استنتج الأطفال أثناء تدريبات الأداء؟ 

رسالة المشهد: بين شعور خيبة الأمل وشعور الاعتزاز

ينشغل المشجعون في كل مرة بتهنئة لاعب واحد ويتم تجاهل جهد الفريق الذي تعاون من أجل تمرير الكرة إلى أن أصابت المرمى بجهد ومهارة الهداف. لاحظَ الأطفال شعور خيبة الأمل لدى بعض اللاعبين كما لمَسوا شعور الفرح عند آخرين، لكنهم أجمَعوا على أن لكلِّ لاعبٍ مهام يجب أن يؤديها بعناية، وأنهم لم يكونوا ليشعروا بخيبة الأمل ما لم تأتي نتيجة خطأ لإدراك معنى النجاح من قِبَلهم ومن قِبَل الجمهور. كما تناقشوا أيضاً بمَدى تأثير الشعور المُكتَسَب على الحافز.  

ختاماً، ثقافة الطفل لا تقل أهمية عن ثقافة الإنسان الناضج، واجبي أن أهيئ له غذاءه الفكري من كتب، قصص ومسرح. أعمل وأبني مع الطفل كلَّ يوم محبة واحترام ودعم. الطفل الذي لا يُحتَرَم لن يحترمَ نفسه، الطفل الذي يتعلَّم أن لا يحترمَ نفسه ليس بمقدوره احترام الآخرين. بهذا أعود إلى مقدمة المقال وشغفي بتوعية الطفل لمفهوم البعد الأخلاقي بهدف الارتقاء بمجتمعاتنا.

تعليقات