📁 تدوينات جديدة

لماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟ | منى قجيع

 

منى قجيع | المغرب

أمّا عن سؤال "لماذا نكتب"، فقد أصبحت لي إجابة واحدة عنه بعد كلّ الإجابات السّابقة المهترئة كلّها (نكتب لنشفى، أو نكتب لنتسامى، أو لنلعب، أو لنقاوم الفراق والموت، أو لننتصر على السّأم... إلخ). الإجابة الوحيدة المتبقّية لي شخصيّا هي الآتية: ولماذا لا نكتب؟

وأمّا عن سؤال "لمن نكتب"، فهو سؤال أكثر تعقيدا. كان أمبرتو إيكو -على ما أظنّ- يسخر من إجابة أنّنا نكتب لأنفسنا، قائلا: إنّ الإنسان الوحيد الذي يكتب لنفسه هو من يخطّ على جذاذة أسماء الأغراض التي سوف يشتريها من المغازة كي لا ينساها. ولهذا السّبب، تكون الكتابة دوما وبالضّرورة كتابة للآخرين.

لكن، يبدو أنّ إيكو قد تغافل عن أنّ الذّات الكاتبة هي نفسها الذّات القارئة، بل القارئة الأولى أصلا لمكتوبها، وبالتالي نحن نكتب لأنفسنا أيضا وربّما لأنفسنا أساسا. بل إنّ الكتابة لأنفسنا تحمينا من شيء بالغ الخطورة ألا وهو الغشّ. أن نكتب لأنفسنا يعني أن نحاسبها فورا ونمنعها من أيّ غشّ كان، وإن نحن لم نغشّ أنفسنا سيكون الامتناع عن غشّ الآخرين نتيجة تلقائيّة وبديهيّة.

هذا في الدّرجة الأولى. أمّا في الدّرجة الثانية، فإنّ الذّات الكاتبة وإن كانت مفردا في الظّاهر، فهي جمع في السّريرة. وبذلك تكون الكتابة أصلا عمليّة جماعيّة منذ البداية تتصارع فيها الأصوات، أو كلّ أولئك الآخرين، بمن فيهم الكاتب نفسه، الذين يسكنون جمجمة الكاتب وقلبه. وبهذا الشّكل تكون الكتابة فورا فضيحة، وليست أبدا عمليّة سريّة يمكن لها أن تجعلنا نتساءل من أساسه إن كان الكاتب يكتب لنفسه أم للآخرين.

إنّ الأمر شبيه بأن يسأل الواحد منّا ما إذا كان المولود حديثا قد جاء لحسابه الخاصّ أم جاء لحساب الآخرين. والحال أنّ سؤالا من هذا القبيل يبلغ درجة مضحكة من اللا معنى. فالمولود حديثا مقذوف في العالم دفعة واحدة ولن يكون هناك معنى لوجوده أساسا، خصوصيّا كان أم عموميّا، خارج هذه الشّبكة الكبيرة والمعقدة والمتشعّبة التي تشكّل العالم، والتي لا تتكوّن من كائنات بشريّة فحسب بل من مخلوقات كثيرة أخرى، بعضها ملموس وبعضها مجرّد.

لمن نكتب؟ يبدو هذا السؤال سيّء الطّرح. دولوز كان قد انتبه إلى ذلك، ولهذا السّبب حوّره قليلا كي يصبح الآتي: من أجل من نكتب؟ أو على شرف من نكتب؟ ولتكون الإجابة فيما بعد طريفة وأخّاذة في آن، إذ يقول دولوز إنّنا نكتب لِلا قرّاء (pour des non lecteurs). إنّنا نكتب من أجل الأميّين مثلا أو بالتّحديد نيابة عنهم وعلى شرفهم.

إنّ الكتابة إذن عمليّة كونيّة وجماعيّة على الفور ومباشرة. فنحن نكتب بخليط عجيب وفي ذات اللحظة ما إن نمسك أقلامنا: لأنفسنا ولغيرنا، نيابة عن أنفسنا ونيابة عن غيرنا، من خلالنا ومن خلالهم، عن طريقنا وعن طريقهم، لـ"نحن" أو لـ"الغير" ولـ"اللا نحن" و"اللا غير".

ربّما الأكثر طرافة من إجابة دولوز الإبداعيّة هذه، هي حديثه -في سياق آخر لكن في اتصال بالكتابة دائما- عن "الطية"، وكيف أنّ الفيلسوف أو المبدع إنّما يمارسان نشاطا من نوع آخر يتخطّى سؤال الجدوى أو سؤال المرمى (la cible) نحو منطقة أخرى، ألا وهي الوجود في حدّ ذاته. كي تكون الكتابة عملا مفارقا يثني تلك الطيّة أو يكشفها باستمرار كي يشعّ منها في كلّ مرّة شيء خفيّ مدهش.

سيكون فوكو أقلّ رومنسيّة من دولوز، قائلا إنّ الكتابة عمل تفجيريّ صرف شبيه بالدّيناميت. لكنّ هذا التفجير لن يكون هدفه التخريب في حدّ ذاته -وإن كنت شخصيّا لا أمانع فعل التخريب في الكتابة-، وإنّما نسف الجدران التي تحجب الحقيقة واحدا تلو الآخر إلى ما لا نهاية. الجدار أو الطيّة، لا فرق بين الاثنين. ربّما لهذا السّبب يمكن لنا أن نفهم علاقة الصّداقة التي كانت تجمع بين دولوز وفوكو.

لكن بعيدا عن سؤال "لمن نكتب"، والذي حوّله دولوز إلى سؤال "على شرف من نكتب"، ثمّة سؤال آخر أيضا هو سؤال النّتيجة: ما هي النّتيجة المرجوّة من الكتابة؟

إنّه سؤال أحمق بعض الشّيء، لسبب بسيط للغاية، وهو أنّ الكتابة في حدّ ذاتها مغامرة ليس لها أيّ نتيجة متوقّعة مسبقا. أمّا استباق هذه النّتيجة فهو الحمق عينه. من الأكيد أنّنا سوف نكتب جيئة وذهابا في كلّ مرّة، ممّا يخفّف من وطأة المفاجأة افتراضيّا. لكنّ العكس تماما هو الذّي يحصل، لأنّ التغيير الذي يطرأ في كلّ مرّة أمام بداية ونهاية مكشوفتين، سوف يكون هو نفسه مغامرة جديدة. فكلّ تغيير سوف يكون بمثابة ذبذبة قويّة تغيّر باستمرار اللاحق مثل السّابق.

سوف أسأل هذا السّؤال مباشرة وفورا دون لفّ ودوران: هل نكتب كي نعجب الآخرين؟ إجابتي الشخصيّة سوف تكون: طبعا، نكتب فعلا كي نعجب الآخرين. لأنّ الكتابة عمل شاذّ صرف لا يخلو من الغواية، غواية الذّات -أو آخر الذّات- أوّلا، قبل غواية الآخرين بإبطال توقعاتهم في كلّ مرّة.

لكن، هل أنّ هذا الإعجاب سوف يكون عن طريق التودّد؟ قطعا لا. فإن كانت الكتابة عملا شاذّا في الغالب، فهي تنوي اللّكم وليس التودّد. إنّها تنوي إحباط الآخر وليس إرضاءه. فالإرضاء، مثلما تعرفون ذلك جميعا، هو أكثر عمل سخيف وثقيل وخال تماما من الغواية.

إنّ الكتابة عمل عنيف جدّا، لكنّه عنف نبيل دون أدنى شكّ، وعادل أيضا، إذ أنّ الكاتب يعنّف نفسه أوّلا قبل تعنيف قرّائه بما أنّه القارئ الأوّل أساسا لمكتوبه، ولأنّه أيضا منذور لإحباط نفسه إذ هو يفعل شيئا آخر عدا ما هو متوقّع منه.

تعليقات