سراب
ما زلتُ أجهل عنك كل شيء، وهذا يؤلمني بطرق لا يمكن للكلمات أن تصفها.
طال انتظار لقائنا، حتى شعرت أن جزءًا من روحي قد تلاشى في غيابك. الإنسان
حين يبتعد عن ذاته، ويغرق في زحام الأيام، يخسر شيئًا من جوهره، ولهذا كان يجب أن نجد
بعضنا منذ زمن، حين كانت روحي نابضة بالحياة، حين كان بإمكاننا أن نمسك بظل إنسانيتنا
قبل أن يتلاشى. لكن ذلك لم يحدث.
قصتنا الآن تثير في داخلي مزيجًا من الأسى والاستغراب، بل ربما السخط. كيف
يمكن للحب أن يخدعنا بهذه الطريقة؟ كيف له أن يتركنا معلقين بين الرجاء والخسارة؟ خاب
أملي فيك، وفيه، وفي كل ما كنت أؤمن به. ربما لا يهمك ذلك، وربما لا يعني له شيئًا،
ولهذا أنتما بعيدان عني، لكنني لا أستطيع أن أتجاهل هذا الألم الذي يتردد صداه في صدري.
كنت أؤمن بالحب كما يؤمن العصفور بالسماء، لكنه كان سرابًا، مجرد حلم خادع.
قلبي الذي ازدهر ذات يوم، جاء الخريف ليسلبه أوراقه، وها أنا أقف أمام خوائه، متسائلًا:
ألم يكن الأجدر بنا أن نعيش لحظة دفء واحدة تحت ضوء القمر، قبل أن تبتلعنا العتمة؟
كل شيء يتلاشى من حولي، كل شيء، ولم أعد أرى نور الحياة كما كنت. يا للخيبة!
يا للخذلان! كم ليلة مضت وأنا وحيدة، أجهل كيف كان يمكن أن تكون أيامنا، كيف كان يمكن
أن يبدو صوت ضحكتك، أو حرارة يدك في يدي. لا أعرف عنك شيئًا! كيف يمكن لهذا أن يكون؟
هل يمكن أن نستعيد ما ضاع منا؟ هل يمكن أن أعرف تلك التفاصيل الصغيرة التي
لم تخبرني بها، تلك الأغاني التي تحبها، الفصول التي ترتاح فيها، القصص التي كنت ستهمس
بها لي؟ لا أستطيع أن أقول إن وقتنا قد ضاع، لأننا لم نحظَ به أصلًا. نحن مجرد غرباء
عبرنا ذات طريق، لكننا لم نلتفت.
لم يكن بيننا فراق، لأننا لم نلتقِ، وهذا أشد أنواع الفقد قسوة. لا ألومك،
لا يمكنني أن ألومك على شيء لم يحدث، لكنني أتساءل: هل سيجمعنا الغد عند الله؟ هل يكون
لنا هناك لقاء لم يُكتب لنا هنا؟ ربما هذا هو الأمل الوحيد الذي يمكنني التمسك به،
وإلا فإن انتظارنا سيظل بلا جدوى.
راحتي في البعد
أدركتُ متأخرة أن للسلامِ ثمنًا، وأنني كنتُ أدفعهُ من روحي دون أن أدري.
اعتقدتُ أن الحبّ يحتملُ كلّ شيء، لكنني لم أفهم أن الاحتمال لا يعني الانكسار،
وأن الصبر لا يعني التنازل عن الكرامة.
كنتُ أبحث عن الدفء في كلماتٍ باردة، عن الطمأنينة في عاصفةٍ من
الاتهامات، عن نفسي في انعكاسٍ مشوّه. كنتُ أظنّ أن الغيرة دليل الحبّ، فاكتشفتُ
أنها أحيانًا قيدٌ يُغلّف بالاهتمام. كنتُ أظنّ أن الشوق يجلبُ التقدير، فاكتشفتُ
أنه في بعض القلوبِ لا يجلبُ إلا مزيدًا من الغرور.
اليوم، أنا مرتاحةٌ كما لم أكن يومًا. وجدتُ في الصمتِ حياة، وفي البعدِ
نجاة، وفي القرارِ قوة. لم يعد في قلبي مكانٌ للعتاب، ولا في روحي متّسعٌ للألم.
لن أبرر، لن أشرح، لن أنتظر. بعض الطرقِ لا تستحقّ العودة، وبعض الأبوابِ إذا
أُغلقت، فذلك نعمةٌ لا خسارة.
أنا بخير... وأخيرًا، أنا حرّة.
لا ضرر
لا ضرر في أن نشعر بالحيرة أحيانًا، أن نقف عند مفترق الطرق دون إجابة
واضحة.
لا ضرر في أن نأخذ يومًا لأنفسنا، دون إنتاجية أو خطط أو إنجازات.
لا ضرر في أن نسمح للدموع بالانهمار، أن نعترف بأن اللحظة ثقيلة، والحياة
ليست عادلة دائمًا.
لا ضرر في أن نضع أنفسنا أولًا، أن نختار الراحة بدلًا من إرضاء الجميع.
لا ضرر في أن نكون المختلفين وسط منسجمين مع القواعد التي لم تناسبنا
يومًا.
لا ضرر في كتابة رسالة مشجعة وتعليقها على مرآتنا، لنذكر أنفسنا أننا
نستحق اللطف.
لا ضرر في أن نبطئ، أن نتوقف عن ملاحقة كل حلم عابر، أن نختار الهدوء
بدلًا من السباق المستمر.
لا ضرر في تأجيل الردود، في ترك الكتب مفتوحة دون إنهائها، في شراء
الورود لأنفسنا دون مناسبة.
لا ضرر في الجلوس بصمت، في انتظار لحظة نشعر فيها بالأمان مجددًا.
لا ضرر في أن نكتب عن سعادتنا الصغيرة، أن نبتسم للسطور التي نخطها، أن
نمنح أنفسنا حبًا لا مشروطًا.
لا ضرر... بل ربما في ذلك كل الخير.
لن يُنسى
بات من الصّعب أن يُنسى شخصٌ مثله بقساوته، وبالقطّارة التي يعطي فيها حبه…
ولّد إدمانًا لديها… بَنَت معه ذكرياتٍ عميقة، هي التي لم تسمح لأحد المساس بها، الولوج
إلى مشاعرها… دخل هو وسحق كل شيء…
كانت روحها مرجًا من كل أنواع الزهور، مختلفة الألوان والعبير… فحوّلها إلى
يباس، إلى أشواك… كل ما تنفسّت، وخزها الشوكُ فتألمت… هي التي حافظت على عذرية قلبها،
وبذكورته أدماه…
بات من الصّعب أن يُنسى… تنتظره وألمها كل يوم… تظن بأنه يكترث لمشاعرها،
لألمها، ليثبت لها كل مرة بأن أنانيته تفوق الحد…
بات من الصعب أن ينسى لأنها لم تعد تملك غيره، فقد جردها حتى من الأمل… أيُنسى
الألم؟ أيُنسى الجرح العميق؟ لا شيء يمحو ما قد كان…
يتعلق الجسد بالألم كي لا ننسى وننتظر العدالة التي ربما ستتحقق يوما ما…
مجنونتي تغار
مجنونتي تغار...
تغار عليّ من كلمات العابرات، من أوراق الجرائد، من سجائري والشاي
في قهوة المدينة في باريس بالذات التقيتها…
بشالٍ يدلّ على وطنيتها، وربما قضيتها كانت عربيتها واضحة...
شعرها المجعد الطويل، وكتبها العتيقة...
جلست تحتسي القهوة، وأنا أنظر وأتأمل...
مضى الوقت وأنا أسرح في خيالي معها حتى نسيت العمل...
رفعت رأسها غاضبة وقالت، ظنّاً منها أنني أجنبي ولن افهم ما تقول: "في
إشي كانت ناكصتك إنت؟"
ابتسمتُ وقلت: "عمّار... اسمي عمّار."
احمر وجهها خجلا...
ومن ذلك الحين وهو أحمر...
يحمّر خجلاً، حباًّ، غضبا، تعباً وغيرة...
كتبنا على جدران المدينة جذوع الأشجار أسوار الحدائق حكايات العشاق...
تكدست مكاتبنا بأقاصيص الأوراق والأحلام...
كتبنا القصائد، نظمنا الأشعار...
ملأنا أرضياتنا رسوماً وأعلاما...
ومع كل هذا الحب والجنون والعشق، تظلّ تغار...
تغار على شفتيّ من كوب شاي...
على تنهيدتي من سيجارة...
على صوتي، على يديّ...
على نظراتي تتبعها، فلا أرى غيرها...