نعلم جميعا، أن ما ذهب إليه أكثر العلماء هو أن أول سورة أنزلت من القرآن الكريم هي سورة العلق التي بدأت بفعل الأمر "اقرأ". لتكون القراءة أول تكليف رباني قرآني للإنسان، ومن بين ما فسرت به أنها دعوة للعلم والتعلم باعتباره منهجا ودستورَ حياة.
وهنا نتساءل: أليس تحقق فعل القراءة رهينا بوجود ما نقرأ أساسا؟ أليس في هذا تكليف ضمني يدعو للكتابة كما القراءة كمفتاحين أساسيين لكل علم حفظا ونقلا وتطورا؟ أليس هذا ما تؤكد عليه الآيات: "اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم"؟
فالدلالات والتفسيرات المتعددة لكلمة "اقرأ" وكلمة "القلم" تتوحد كلها في نهاية المطاف، مهما اختلفت السياقات والغايات وتعارضت التوجهات، عند نتيجة حتمية: "علم يخرج من الظلمات إلى النور" متى تحقق شرط ذاك التكليف المزدوج: " اقرأ باسم ربك الذي خلق". لتكون سورة "العلق" أو "سورة اقرأ باسم ربك" أتت برد شامل بما قل ودل، على التساؤل الجوهري الأزلي: لماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟
قد نكتب لنتنفس، لنشكو، لنحلم، لنعبر عن ذواتنا، أو عن غيرنا، لننقل ونحفظ لنا ولغيرنا معارف وعلوم وثقافات لنغير ونتغير... لكن بداية ونهاية نحن نكتب لنُقرأ ونَقرأ، ونكتب لمن يقرأ ولمن لا يقرأ أيضا، لغايات سامية بموجب ميثاق تكليف ومسؤولية، ترتبط فيه القراءة بالكتابة ارتباط الروح بالجسد.
فكتاب لا يُقرأ هو جسد بلا روح تمنحه كينونة، تفعله، تنطق معانيه، تشخص قوته وعلته، تقيم وتقوم مساعيه، ترتقي به، بمستويات وأدوات تختلف من قارئ إلى آخر. وكائن لا يقرأ، أو لا يجد ما يقرأ، هو روح هائمة، تائهة، بلا جسد يحتويها، يعرفها بذاتها، يحضن همومها وتطلعاتها، ينير عتماتها، يكسبها خبرات وقدرات جديدة، يزيل عنها شوائبها، ويرتقي بها...
كما أننا كلما قرأنا أكثر، كلما كتبنا أفضل. وكلما كتبنا أفضل، كلما قُرِئنا أكثر. مع ضرورة التركيز طبعا على الكيف قبل الكم. وهذه المعادلة قد لا تتزن في مجتمع يستهين بذاك الميثاق، ولا يهتم بذاك الجسد أو بتلك الروح أو بهما معا، مما يؤدي إلى تشوه معالم الإنسان فيه وربما يغيب.
وبالتالي فالكتابة والقراءة ليسا مجرد متعة أو حاجة في النفس نقضيها، وإنما هما تكليف ومسؤولية كونية للفرد والمجتمع، تشكلان حقا وواجبا في نفس الآن. وربما المسؤولية العظمى تقع على عاتق الكاتب، لأنه من جهة مدعو للاستمرار في الكتابة رغم كل الصعوبات والإكراهات، حتى وإن أخل الطرف الثاني بذاك الميثاق. كما أنه مدعو للاستحضار الدائم لحجم ذاك التكليف من خلال التساؤل: لماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟ قبل حمل القلم أو وضعه.
وهنا أحب أن أعرج قليلا على الشق الثاني من هذا التساؤل: لمن نكتب؟ فكما قلت آنفا نحن نكتب لمن يقرأ ولمن لا يقرأ أيضا؛ من يقرأ هو نحن وكل من تستهويه القراءة، مُريدا أو ملزَما، متذوقا و/أو متعلما، ويستطيعها، وإن اختلفت الأدوات والأساليب والمستويات. ومن لا يقرأ قد يكون إما كل عاجز عن القراءة، أو كل عاجز عن الحصول على ما يقرأ؛ العاجز عن القراءة أقصد به كل من لا يمتلك أدواتها المختلفة سواء تعلق الأمر بسن كجنين أو رضيع أو طفل دون سن التمدرس مثلا، أو تعلق بأمية أو جهل بمختلف مستوياتهما تحول دون القدرة على القراءة إما كرها، أو استثقالا أو عزوفا، والعاجز عن الحصول على ما يقرأ، هو المحتاج اقتصاديا أو صحيا؛ أي فقير المال والوسائل وذو القدرات الخاصة.
وكل هؤلاء نحن نكتب لهم، وما نكتبه يصلهم جميعا، ولو بنسب متفاوتة، لكن ينبغي أن تتظافر الجهود ليصلهم أكثر ويحدث لديهم أثرا.
فالكاتب من جهته (كعالم ومعلم وأديب، وإعلامي، وفنان، ومؤسسة تنظيمية لمنهاج تعليمي ثقافي فني متكامل)، مطالب باحتواء القارئ وميوله واحتياجاته وتطلعاته وهمومه وإكراهاته، مراعيا اختلافاته المعرفية والاقتصادية والصحية والعمرية، خصوصا عندما يتعلق الأمر بأدب الطفل والمراهق، فيسعى إلى إيصال فكرته إلى الفئة أو الفئات المستهدفة بالأسلوب والوسيلة الأنسب لها ولخصوصياتها والأكثر جاذبية؛ ورقيا أو رقميا، خطا أو صوتا أو صورة... متجنبا ما قد يؤدي إلى مثبطات القراءة، وعلى رأسها الملل وصعوبة الفهم دون تنازل عن الرقي الثقافي والفكري أو تدن بمستواه. وبكل مصداقية.
والقارئ من جهته (فردا ومؤسسات اجتماعية وتربوية وثقافية ودينية وسياسية واقتصادية)، مطالب باحتواء الكاتب وتفعيل نصه، من خلال الدعم والتحفيز، ومساعدته على إيصال المعلومة الجيدة إلى كل الذين يكتب لهم ممن سبق ذكرهم، وتزويدهم بكتابه أوعصارة فكره وخلاصة نصه بكل الوسائل والطرق المتاحة. سواء في البيت، أو في الفصل الدراسي، أو في العمل، أو في الشارع، أو على خشبة أو ملعب، أو خلف شاشة.. بدءا من ثقافة حياة وقيم تنعكس على أقواله وأفعاله ومواقفه وأفكاره وأسلوب عيشه، وصولا إلى تكثيف الأنشطة الثقافية المؤسساتية ودعمها وتطويرها وإنشاء وإعادة تأهيل المكتبات العمومية والفضاءات العلمية والثقافية وإمدادها بما يتطلبه العصر والحاجيات الخاصة من إمكانات وسائطية متطورة مع الاستفادة من المكتبات الرقمية والتجارب العالمية في هذا المحال وتشجيع كل المبادرات الثقافية الهادفة إلى خلق جيل يقرأ ويفيد ويستفيد مما يقرأ، ومحو أمية جيل لا يقرأ. وبكل مصداقية.
وغير القارئ لأمية ما، من جهته مطالب بمجهود ذاتي ولو بسيط والتمسك ولو بقشة للالتحاق بالركب. خصوصا في عصر يسهل فيه الحصول على كنوز المعرفة بأقل مجهود وتكلفة.
فلن يكتمل السمو الإنساني ورقيه، ولن يتطور الفرد والمجتمع كما ننشد جميعا ونرجو، إلا بتكامل القارئ والكاتب وتلاحمهما تلاحم جسد وروح، في إدراك تام لحجم ذاك التكليف ووعي بتلك المسؤولية، ورغبة حقيقية في التغيير للأفضل، بدءا من الذات وصولا إلى الآخر، كل من موقعه وبما يستطيعه.
وكما جاء في القولة: " إما أن تكتب شيئا يستحق القراءة وإما أن تفعل شيئا يستحق الكتابة"