غالبًا ما يكون السرد الواقعي المتصل بحقائق الناس
ضمّادًا لهم، فهو يعبر عنهم وعن تفاصيلهم ونجاحاتهم وخسائرهم، باعتباره يستمد أحداثه
وشخوصه من الحياة الحقيقية للبشر ومن همومهم وظروفهم حتى وإن دُمج مع الخيال. ومن ثم
فالعلاقة بين السرد والواقع علاقة وثيقة جدًا، وهو دون شك يمثل نوعًا من الاحتجاج عبر
مناقشة القضايا والمشكلات التي تلامس عمق الإنسان دون تزييف أو تجميل.
"الوصية" عتبة سردية معرّفة دالّة ومختصرة،
وطليعة كاشفة تعكس ما تنطوي عليه القصة من مضامين وأفكار، بل وتجعل القارئ يخمّن أحداثًا
قد تحدث، مما يضفي قدرًا من التشويق لديه. وتعود أهمية هذا الاستهلال إلى أنه يحدد
الحدث الافتتاحي والأساس الذي تنطلق منه الوقائع الدرامية تمهيدًا للصراع الذي ستفرزه،
ويلقي الضوء على شخصيات القصة. بطلنا شيخ متثاقل الخطوات، منهك القوى، استعصى على جهده
فتح باب المقطورة لأن "قطع غيارها" تهالكت دون اهتمام، من خلال صراعه مع
الحياة وكفاحه المستميت الذي تنبئ به أعراض وجهه المتعبة الكادحة، وحالة جلبابه الصوفي
الباهت بياضه رغم أنه لم يصل العتيّ من الكبر.
صورة نقلها الراوي بصيغة المتكلم من خلال موقعه المحوري
في القصة، عالم بحاضر البطل، شاهد على سلوكاته، مطلع على أفكاره الداخلية، ومتدخل لمساعدته
وتسهيل صعوباته، متكلّم بصوته ومتحكم في بنية التوصيل السردي الذاتي من خلال ضمير المتكلم
كشخصية مصاحِبة ومشارِكة في الأحداث: "أسعفته بحاجته.. نسيت أمره.. صرفت اهتمامي..".
ليس ذلك فحسب، بل تتسع أدواره إضافة إلى الجانب الإنساني إلى جوانب ذاتية واجتماعية
ووطنية من خلال "مصابيح دماغه المشتعلة" والكفيلة بتحريك دورة العقل التي
تسلط الضوء على قضايا تشد تفكيره وتملأ مساحة سفره الفكري والمادي، وهو يخترق بعجلات
القطار عوالم فضاء مسيئة تُحدّث عن مجتمع لا زال يرزح تحت ثقل العوز والنقص.
"لم أستفق من غفوتي إلا على اهتزاز الباب مرة
ثانية".. غفوة بثقل رحلة مثخنة بهموم شتى، مَثُل فيها الشيخ للمرة الثانية ليختزل
كل المشاعر السلبية والأحاسيس المحيطة التي تكنز الوطأة، ليواجه نفس المعارك بقواه
المستجدية الملقاة على كفّي الحسرة والندم على ما مضى من عمر لم يوفّه حقه. لكنه مدرك
قيمة الدرس والحكمة التي يعيش تفاصيلها، ويجد الفرصة والموقف صالحين لتمريرها لمن التمس
فيه شفقة وروح البنوة الصادقة: "بارك الله فيك، أوصيك يا ولدي: انتبه لنفسك..".
وصية بصيغة آمرة حرّكها دافع الاعتراف بالفضل لمن قام بدور الابن في بذل الممكن، وهي
ترجمة عملية لخوف السلف على الخلف لعدم الوقوع في الأخطاء نفسها، بل وهي أيضًا حاجة
إنسانية واجتماعية.
قطار يختزل مسرح الحياة البطيئة العجلات الموصِلة
إلى الهدف في الوقت المناسب، عجلات تنمية لم تحركها بعد الإرادات الصلبة والرغبة الفولاذية
في تجاوز ما عشناه على عهد استعمار ولى، تاركًا شيئًا يُذكر في أعين الناس. صورة مُثلى
تفضُل بكثير ما تلاها؛ قطار يمشي الهوينى ليعزف على كل الأوتار المهترئة، ومحطة تندب
حظ جمالها المفقود رغم صمود بعض ملامحها المستسلمة للهزيمة والمستجدية قدرة الله على
الفعل دون غيره، المكتوبة فوق بابها الخارجي: "لا غالب إلا الله". أحوال
لم تخفَ على الركاب، بل يعيشونها بأحاسيس قوية ملؤها التحسر الذي أبداه أحد الركاب:
"أكيد أن الاستعمار استعمار، لا أجادل في الأمر ولا أرتضيه، لكن الحمد لله أن
فرنسا مرت من هنا يومًا، وإلا لظلِلنا إلى اليوم نركب الدواب للسفر إلى المدينة."
توتر وصراع متنامٍ تجسّده القوى الرئيسية في القصة
والثانوية أيضًا، لأنها تتغلغل في الواقع الذي يخلق تقلبات وأزمات في القطار، وهو المجتمع
ذاته وما يموج فيه من صراعات - بمنحاها العمودي والأفقي - بين المتاح فيه والمطلوب،
ناهيك عن ملامح الصراع النفسي الذي عاشه الراوي من خلال مصابيح دماغه المشتعلة. أزمة
احتدت في مشهد الشيخ الذي نزل من القطار مترنحًا، وقد بلغ عياؤه مداه باحثًا عن زاوية
لم تكن سهلة المنال لإفراغ مثانته، وهو في حالة انهيار بل استسلام شكّلت صدمة كشفت
ظروف تنقل الرجل بين العربات وهو يجابه كل المطبات. أزمة محتدة تلاها انفراج بلغ نفسية
الراوي أيضًا من خلال مشهد البساط الأخضر بأزهاره المحمرة الخدود وسنابل الزرع المتراقصة
أمام أشعة الشمس. مشهد تحوّلت معه العدسة اللاقطة إلى الأمل الكامن في الحياة في جوانبها
العذراء الطبيعية البعيدة عن الصخب والمسخ. ولأهمية "المكان" السردية عمد
الراوي إلى وصف تفاصيله الدقيقة لإعطائه صورة حية في البناء السردي، مستحضرًا العديد
من مقوماته الجمالية حتى وإن كانت حالة المكان لا تسمح بذلك، كما فعل في تصوير حالة
محطة القطار.
ولأن المعاناة مطلقة - وهذا مبرر قوي لعدم وسم الشخصيات
بأسماء أعلام معينة - رغم اختبائها في زوايا ضيقة من القطار، فإنها تتحول إلى لغة مشتركة
بين قوى القصة وكل من فقدوا البوصلة في هذا المجتمع، ومن يجرّون مع جلابيبهم قصص تحول
"حلاوة السكر إلى مرارة". لذلك فالسرد في القصة، رغم تحركه في مساحة محدودة،
مكتوب بمهارة وواقعية لا تحتاج إلى الكثير من الصفحات للوصول إلى أعماق القارئ.
تجربة واحدة تعكس عالمًا متكاملًا وترسم ملامح الواقع
في فترة زمنية معينة، وسرد يبوح بالكثير ويسمح بالأكثر في مقاربة هذا المتن وغيره من
سرديات القاص المغربي المقتدر الأستاذ أحمد الوارث.
