تنتمي جهان الموذن إلى جيلٍ مغربيّ جديد يرى في الكتابة ممارسةً للحياة.
ابنةُ مدينةِ القصر الكبير، وباحثةٌ في سلك الماستر في القانون الإداري والمالي
وتحديث الإدارة، وجدت في الكلمة بيتها الأهدأ منذ البدايات؛ نشرت قصتين على منصة
«أصداء الفكر» وضمن الإصدار الجماعي "أنفاس الحكايا": «في قاعة انتظار»
و«العابر تحت المطر»، وقدّمت عبرهما حسًّا إنسانيًّا رفيعًا وقدرةً على التقاط
التفاصيل الصغيرة وصياغتها بنَفَسٍ رقيق يوازن بين الرهافة والوضوح.
اليوم تعلن روايتها الأولى «ما بعد السواد… حين تولد الذات من رحم
الكلمات» (2025) عن ولادة صوتٍ سرديٍّ واعد. ترافق الرواية بطلتها «رغد» في رحلةٍ
متدرجة من الانكسار إلى النهوض، ومن العزلة إلى مصالحة الذات. ليست البطولة هنا
ومضةً معجِلة، بل تمرينًا يوميًّا على التعافي: كتابةُ دفاتر، وترتيبُ ذاكرةٍ
مبعثرة، وعبارةٌ تُقال أمام المرآة بثقةٍ خجولة: «أنا أستحق أن أعيش». بهذه الروح،
تُشيّد الموذن سردًا داخليًّا ينهض على لغةٍ شاعريةٍ سلسة تحافظ على صفاء الفكرة،
وتُغذّي المعنى بصورٍ واستعارات دقيقة تُقارب الألم من دون ابتذال.
تقوم البنية السردية على خمسة مسارات شفاء متتابعة: «هشاشة لا تُرى»،
«بين الصفحات، نفس… تتنفس»، «حين بدأت الحياة تردّ التحية»، «الضوء لا يأتي من
النوافذ فقط»، و«النسخة التي لطالما أردتها مني». هذا التقسيم يمنح القارئ خريطةً
وجدانيةً واضحة، ويُحوّل الحكاية الفردية إلى مرآةٍ لأسئلة جيلٍ يواجه العزلة
وفراغ المعنى وضغوط إيقاع الحياة الحديثة. «رغد» ليست بطلةً متعالية، بل شخصية
قريبة تنمو أمام أعيننا، ويُصبح صوتها الداخلي مساحةً لتأمل الأسئلة الكبرى: ما
معنى أن نعيد تعريف ذواتنا؟ وكيف نصوغ أملاً قابلًا للعيش، لا شعارًا إنشائيًّا؟
تُراهن الرواية على اقتصاد العبارة وشفافية الصورة، فتستند إلى جُملٍ
قصيرة الإيقاع تُمسك بوهج اللحظة، وتستثمر في الحواس والذاكرة والهوامش الصغيرة
التي تُضيء اليوميّ. هذا الخيار الأسلوبي ينسجم مع الموضوع المركزي: الميلاد من
جديد بعد الانكسار. كما أن الإخراج البصري أسهم في توسيع هذا الأفق الجمالي؛ إذ
جاء تنسيقُ الصور والعناصر البصرية بإشرافٍ فنيٍّ متقن، فجاء الغلاف الداخلي
والخارجي امتدادًا حسّيًّا لروح النص، وتحوّل التصميم إلى جزء من الدلالة لا قشرةً
زخرفية.
«ما
بعد السواد» ليست مجرد باكورة، بل بيانٌ أدبيٌّ في قيمة المثابرة وقدرة السرد على
مداواة الشقوق الدقيقة في النفس. إنها روايةٌ تُذكّر بأن الكتابة فعلُ حياةٍ
ومقاومةٍ وصمود، وأن وراء أشدّ اللحظات قتامةً تلوح دومًا فسحةٌ للنور، تُرى حين
نتعلم الإصغاء لهمس الذات.