فوز
أبو سنينة
لطالما كرهتُ عرائسَ مسرح الدمى وارتعدتُ كلما رأيتُ واحدةً
منها!
كان طويلاً باعوجاج، لكنني كنت أراه مارداً. عندما يمشي
يتراقص جسده بأكمله بطريقة غريبة، ذراعه الأيمن يتخذ موضعاً ثابتاً أمام صدره بزاوية
٩٠، تعلو وتهبط كلما مشى… ذراعه الأيسر مفتوح من عند الكتف بزاوية غريبة يضرب بها حين
يتحرك كل شيء قريب منه…
كانت ذراعاه أقلَّ ما فيه غرابة… فوجهه الأسمر من المشي
في الشوارع يتمدد ويتقلص مع محاولات اتصاله بالبشر، والتي تبوء بالفشل في كل مرة… عندما
يمشي يجر قدمه اليمين جراً على الأرض، بينما تهتز رجله اليسار دون توقف… ترتديه دائماً
نفس الملابس: بنطال أخضر اللون حوّله الغبار إلى رمادي، وجاكيت أخضر كان أفضل حظاً
من البنطال.
لم أكن أعرف اسمه، أو ماذا يفعل في الشوارع يرقص رقصة العجز
تلك ليكون هيئة الخوف ومصدره في أيامي الصغيرة…
كلما أردتُ الخروج لشراء شيء ما، كنت أصعد على الطاولة الصغيرة
الموضوعة بجانب سرير جدتي، وأطلّ من الشباك أجول برأسي، بل بكامل جسدي، حتى أكاد أقع
بحثاً عنه. إذا رأيته تسارعت ضربات قلبي، صرختُ واختبأتُ أسفل السرير، وإذا حالفني
الحظ ولم أره أنزل مسرعةً لأشتري بعضاً من الحلوى أو كتاباً أتسلى في تصفح صفحاته وأعود
بوثبة أرنب.
كنت أرتعد كلما رأيته. وما كان يخيفني أكثر أنه لم يكن يشبهنا…
لم أكن أملك لغةً لتعريفه، خصوصاً عندما يطلق عواء الذئب ليلاً، فأصرخ دون وعي أنا
أيضاً… أراه يهتز ماشياً نحوي بشعره الأسود المنكوش وعينيه الصفراوين الغائرتين، فأصرخ
حتى أبلل سريري… يضحك على خوفي بمطرٍ آسن يخرج من فمه…
هو ابن الشارع، لا أدري كم من الوقت بقي ضائعاً فيه، لكن
كابوسي الطويل معه انتهى ذات مساءٍ صيفي من شهر آب، عندما سمعنا من النافذة صوت عواء
الذئب مجدداً. رأيتُ من الشباك ركضته الراقصة وهو يهتز ويتلوى كدمية مربوطة بخيوط…
ملأ الصراخ الليلة الحارة آتياً من كل اتجاه، وتزامن مع توقف دورية شرطة. نزل منها
شرطي وحاول أن يمسك به، لكنه لم يتمكن من السيطرة عليه وهو يتلوى كأفعى. نزل الضابط
الآخر من السيارة لمساعدته، وأصبح صراخه أكثر حدة. يهز رأسه يميناً ويساراً بكل قوة.
لم يتمكن الشرطيان من وضعه في الكرسي الخلفي، ففتحا صندوق السيارة ورمياه بداخله يتلوى
كدودةٍ لزجة… أغلقا الصندوق، وكنت ما زلت أسمع صوت عوائه الخافت. وصلني كلام الناس
من أسفل النافذة، وعلى رأسه كلمة لم أفهم معناها حينها: «المسخ… رحل المسخ». كانوا
يرددون.
لم أرَ هذا الشخص مرة أخرى بعد تلك الليلة، رغم أنني بقيت
أبحث عنه في الشوارع قبل أن أخرج إلى أي مكان. وعندما كبرتُ قليلاً، عرفتُ بأنه لم
يكن دميةً من دمى مسرح العرائس التي ما زلت أرتعد كلما رأيتها، بل كان مجرد مخلوقٍ
مختلف في عالمٍ يعج بالمسوخ…