📁 تدوينات جديدة

الفشل المهني وتداعياته على التنظيمات والجماعات المهنية | ذ. عبد الحليم إدريسي

الفشل المهني وتداعياته على التنظيمات والجماعات المهنية | ذ. عبد الحليم إدريسي

ذ. عبد الحليم إدريسي | المغرب 

يعد الفشل المهني تجربة إنسانية شائعة، تتجاوز النظرة التقليدية التي تحصره في مجرد عدم تحقيق الأهداف الوظيفية لتشمل أبعادا نفسية واجتماعية عميقة. فهو ظاهرة تتشكل وتفسر ضمن شبكة من العلاقات الاجتماعية، والمعايير الثقافية، والتوقعات الجماعية. إن كيفية إدراك الفرد لفشله، وكيفية تعامله معه، وكيفية تفاعله مع الآخرين بعد الفشل، كلها جوانب تتأثر بشكل كبير بالحركية الاجتماعية، كما تؤثر في المجتمعات والجماعات المهنية.

يعرف الفشل المهني في علم النفس الاجتماعي بأنه حالة عدم تحقيق الأهداف والتوقعات المرتبطة بالمسار الوظيفي للفرد، مع التركيز على الأبعاد الاجتماعية لهذا الإخفاق. لا يقتصر الأمر على الخسارة المادية أو عدم الترقية، بل يمتد ليشمل الشعور بالخزي والإحراج وفقدان المكانة الاجتماعية وتدهور العلاقات المهنية والشخصية. من هذا المنظور، يصبح الفشل المهني ظاهرة اجتماعية تتأثر وتؤثر في التفاعلات بين الأفراد والجماعات. إذ يمكن أن يؤدي إلى تغيير في كيفية إدراك الآخرين للفرد، مما يؤثر على فرصه المستقبلية ومكانته الاجتماعية. كما أن الضغوط الاجتماعية لتحقيق النجاح يمكن أن تزيد من وطأة الفشل، واعتباره تهديد للهوية الاجتماعية للفرد، خاصة إذا كانت هويته مرتبطة بشكل وثيق بمهنته أو مكانته الوظيفية. هذا التهديد قد يدفع الفرد إلى تبني سلوكات دفاعية لحماية ذاته الاجتماعية.

تسهم عدة مفاهيم ونظريات في علم النفس الاجتماعي في فهم أعمق للفشل المهني وتداعياته:

·               نظرية الإسناد (نظرية العزو): تعد نظرية الإسناد، التي طورها فريتز هايدر (Fritz Heider) وويليام كيلي (Harold Kelley)، أساسا لفهم كيفية تفسير الأفراد لأسباب الأحداث، سواء كانت نجاحات أو إخفاقات. في سياق الفشل المهني، يميل الأفراد إلى إسناد أسباب فشلهم إما إلى عوامل داخلية (مثل نقص القدرة، قلة الجهد، أو سمات شخصية) أو عوامل خارجية (مثل الظروف الاقتصادية، سياسات الجهة المشغلة، أو سلوك الزملاء). يتأثر هذا الإسناد، باعتباره عملية اجتماعية، بالرغبة في الحفاظ على تقدير الذات وحماية الصورة الاجتماعية. عندما يواجه الفرد فشلا مهنيا، غالبا ما يميل إلى استخدام التحيز لخدمة الذات، حيث ينسب الفشل إلى عوامل خارجية لتجنب الشعور بالذنب أو النقص. على سبيل المثال، قد يقول الفرد: "لم أحصل على الترقية لأن المدير متحيز" (إسناد خارجي) بدلا من "لم أعمل بجد كاف" (إسناد داخلي). هذا التحيز يخدم وظيفة حماية الذات، ولكنه يمكن أن يؤدي إلى عدم تحمل المسؤولية وتطوير سلوكات سلبية تجاه الآخرين.

·               نظرية الهوية الاجتماعية: توضح نظرية الهوية الاجتماعية، التي قدمها هنري تاجفيل (Henry Tajfel) وجون ترنر (John Turner)، كيف يشتق الأفراد جزءا من مفهومهم الذاتي من عضويتهم في المجموعات الاجتماعية. عندما تكون المهنة أو المكانة الوظيفية جزءا أساسيا من هوية الفرد الاجتماعية، فإن الفشل المهني يمكن أن يمثل تهديدا كبيرا لهذه الهوية. لحماية هويتهم الاجتماعية، قد يلجأ الأفراد إلى استراتيجيات مثل تفضيل المجموعة الداخلية والتقليل من شأن المجموعة الخارجية. وذلك بالتقليل من قيمة إنجازات الزملاء الناجحين أو التشكيك في شرعية نجاحهم، خاصة إذا كانوا ينتمون إلى مجموعة مختلفة (مثل قسم آخر، أو جنس مختلف، أو خلفية اجتماعية مختلفة).

·               نظرية المقارنة الاجتماعية: تؤكد نظرية المقارنة الاجتماعية، التي صاغها ليون فستنجر (Leon Festinger)، أن الأفراد لديهم دافع فطري لتقييم قدراتهم وآرائهم من خلال مقارنة أنفسهم بالآخرين. بعد الفشل المهني، يميل الأفراد إلى إجراء مقارنات اجتماعية، والتي يمكن أن تكون صاعدة (مع من هم أفضل) أو العكس (مع من هم أسوأ). المقارنات الأولى يمكن أن تزيد من مشاعر الحسد والنقص، بينما الثانية يمكن أن تعزز تقدير الذات. ومع ذلك، عندما يشعر الفرد بالتهديد من نجاح الآخرين، قد يلجأ إلى هذا النوع الأخير من المقارنات الاجتماعية، حيث يقوم بالتقليل من قيمة نجاح الآخرين أو تشويهه عبر اتهامهم بالغش، كوسيلة للحفاظ على التوازن النفسي والاجتماعي والرفع من مكانته الذاتية بعد الفشل.

·               التحيز لخدمة الذات: كما ذكرنا سابقا، يعد التحيز لخدمة الذات آلية دفاعية اجتماعية قوية. في مواجهة الفشل المهني، بحيث يميل الأفراد إلى إسناد أسباب فشلهم إلى عوامل خارجية لا يمكن السيطرة عليها، بينما ينسبون نجاحاتهم إلى قدراتهم وجهودهم الشخصية. يعتبر هذا التحيز استراتيجية اجتماعية تهدف إلى الحفاظ على صورة إيجابية للذات أمام الآخرين وتجنب النقد الاجتماعي.

في مواجهة الفشل المهني، لا تقتصر آليات الدفاع النفسي على حماية الذات الفردية فحسب، بل تمتد لتشمل حماية الهوية الاجتماعية والمكانة داخل المجموعة. من منظور علم النفس الاجتماعي تتشكل هذه الآليات وتستخدم في سياق التفاعلات الاجتماعية، وغالبا ما تكون موجهة نحو الحفاظ على صورة إيجابية للذات أمام الآخرين، أو التخفيف من النقد الاجتماعي، أو حتى إعادة تعريف الواقع الاجتماعي بطريقة تخدم مصلحة الفرد الفاشل. من بين هذه الآليات يمكن ذكر:

·               الإسقاط كآلية دفاع اجتماعية: الإسقاط هو آلية دفاعية ينسب فيها الفرد سماته أو مشاعره غير المقبولة إلى الآخرين. في سياق الفشل المهني، يعزو الفرد الفاشل أسباب فشله إلى عيوب أو نواقص في الآخرين، بدلا من الاعتراف بنقاط ضعفه الشخصية. فيرى الفرد الذي يفتقر إلى الكفاءة المهنية أن زملاءه الناجحين غير أكفاء أو أنهم حققوا نجاحهم بطرق غير مشروعة. هذا الإسقاط يخدم غرضين رئيسيين:

1.       حماية تقدير الذات: فمن خلال إلقاء اللوم على الآخرين، يتجنب الفرد الشعور بالذنب أو الخزي المرتبط بفشله، ويحافظ على صورة إيجابية لذاته في عينه وعين الآخرين.

2.      إعادة تشكيل الواقع الاجتماعي: حيث يساهم الإسقاط في خلق واقع اجتماعي بديل فيكون الفرد الفاشل ضحية لظروف خارجية أو لسلوكيات سلبية من الآخرين، بدلا من أن يكون مسؤولا عن فشله.

·               التبرير وتشويه النجاح الاجتماعي: التبرير هو آلية دفاعية يقوم فيها الفرد بتقديم تفسيرات منطقية ومقبولة اجتماعيا لسلوكياته أو نتائجه غير المرغوبة، حتى لو كانت هذه التفسيرات غير صحيحة. في سياق الفشل المهني، يمكن أن يستخدم الفرد الفاشل التبرير لتفسير فشله بطرق لا تضر بتقديره لذاته أو مكانته الاجتماعية. على سبيل المثال، قد يبرر الفرد عدم حصوله على ترقية بالقول إن "الشركة لا تقدر الموظفين المخلصين" أو "النجاح في هذا المجال يتطلب التنازل عن المبادئ".

عندما يتعلق الأمر بنجاح الآخرين، يمكن أن يتخذ التبرير شكل تشويه لهذا النجاح. فبدلا من الاعتراف بجهد الآخرين أو كفاءتهم، قد يبرر الفرد الفاشل نجاحهم بعوامل خارجية غير مستحقة، مثل "كان لديهم واسطة"، "لقد حالفهم الحظ"، أو "لقد غشوا". يساعد هذا التبرير على التقليل من التهديد الذي يمثله هذا النجاح على مكانته الاجتماعية. فإذا كان نجاح الآخرين مبنيا على الغش، فإنه لا يعكس تفوقا حقيقيا، وبالتالي لا يهدد قيمة الفرد الفاشل.

·               الإنكار وتجاهل الواقع الاجتماعي: الإنكار هو آلية دفاعية يرفض فيها الفرد الاعتراف بواقع مؤلم أو مهدد. في سياق الفشل المهني، يمكن أن يتجلى الإنكار في رفض الفرد الاعتراف بفشله تماما، أو التقليل من أهميته، أو حتى تجاهل الأدلة التي تشير إليه. من منظور علم النفس الاجتماعي، يمكن أن يكون الإنكار مدفوعا بالرغبة في تجنب الوصم الاجتماعي المرتبط بالفشل.

عندما يرى الفاشل نجاح الآخرين، يمكن أن يتخذ الإنكار شكل تجاهل هذا النجاح أو التقليل من شأنه بشكل مبالغ فيه. قد يرفض الاعتراف بأن الآخرين قد حققوا نجاحا حقيقيا، أو قد يقلل من قيمة هذا النجاح، أو قد يركز على جوانب سلبية أخرى في حياة الناجحين لتشويه صورتهم. هذا الإنكار يخدم غرض الحفاظ على صورة ذاتية إيجابية، ولكنه يعوق أيضا قدرته على التعلم من أخطائه والتكيف مع الواقع الاجتماعي.

إن السلوكات الناجمة عن الفشل المهني، وخاصة التنقيص من الآخرين ونسب نجاحهم إلى الغش، لا تقتصر آثارها على الفرد الفاشل فحسب، بل تمتد لتشمل المنظومة الاجتماعية والمهنية بأكملها. هذه السلوكات تخلق بيئة سلبية تؤثر على الأداء، الروح المعنوية، والثقة داخل المجتمعات المهنية.

يمكن تحليل هذه التأثيرات على عدة مستويات:

·               تدهور بيئة العمل وانعدام الثقة بين الأفراد: عندما يلجأ الأفراد إلى التنقيص من زملائهم أو التشكيك في نزاهة نجاحهم، فإن ذلك يؤدي إلى زعزعة الثقة بين أعضاء الفريق أو زملاء العمل. وباعتبار الثقة هي حجر الزاوية في أي بيئة عمل صحية، وعندما تتزعزع، يصبح التعاون صعبا، وتزداد الشكوك، وتتراجع الرغبة في تبادل المعرفة والخبرات. هذا يخلق بيئة عمل سامة تتسم بالعدائية، الحسد، والصراع الداخلي، مما يؤثر سلبا على الإنتاجية والابتكار.

·               انخفاض الأداء الجماعي والابتكار: لا شك أن السلوكات السلبية كالتنقيص من الآخرين يمكن أن تثبط الأفراد الناجحين وتجعلهم يترددون في إظهار قدراتهم أو مشاركة إنجازاتهم خوفا من أن يصبحوا هدفا للانتقاد أو التشويه. مما يؤدي إلى تراجع في الأداء الجماعي، حيث يقل الحافز للتميز والابتكار. فعندما ينظر إلى النجاح على أنه نتيجة للغش أو المحسوبية بدلا من الجدارة والجهد، فإن ذلك يقوض قيم العمل الجاد والنزاهة، مما يؤثر على جودة المخرجات والقدرة التنافسية للجماعات المهنية.

 

·               انخفاض الروح المعنوية: إن إدراك الموظفين للإنصاف في المعاملة والقرارات داخل المنظمة، أمر حيوي للحفاظ على الروح المعنوية والالتزام. لكن عندما يرى الأفراد أن النجاح ينسب إلى الغش أو أن الفاشلين يلقون باللوم على الآخرين دون عواقب، فإن ذلك يقوض هذا الشعور بالعدالة. حيث يشعر الموظفون بالإحباط وعدم التقدير عندما يرون أن الجدارة لا تكافأ وأن السلوكيات السلبية لا تعاقب. فيتولد الشعور بالظلم بين الموظفين، وبالتالي زيادة التوتر والصراعات الداخلية.

 

·               تشويه الهوية الاجتماعية للجماعة المهنية: لا تقتصر الهوية الاجتماعية على الأفراد فحسب، بل تمتد لتشمل التنظيمات والجماعات المهنية ككل. عندما تسود السلوكات السلبية كالتنقيص من الآخرين ونسب النجاح للغش، فإن ذلك يشوه الهوية الاجتماعية للجماعة المهنية ويحول ببيئة العمل إلى بيئة غير صحية أو غير أخلاقية، وبالتالي تسويد سمعتها في المجتمع.

في الختام، لا شك أن الفشل المهني، ظاهرة معقدة ومتعددة الأوجه تتجاوز مجرد الإخفاق الفردي. إنه حدث يتأثر بشكل عميق بالديناميكيات الاجتماعية، المعايير الثقافية، وكيفية تفاعل الأفراد داخل المجموعات والمنظمات. فتنتج عنه سلوكات تبريرية يلجأ إليها الأفراد الفاشلون، بهدف حماية تقدير الذات والهوية الاجتماعية في مواجهة التهديد الذي يمثله الفشل. غير أن تداعيات هذه السلوكات تتجاوز الفرد لتؤثر سلبا على الجماعات المهنية، عبر الإضرار بالأداء الجماعي، وزعزعة الثقة المتبادلة. إنها تخلق بيئة عمل سامة تعيق النمو والابتكار، وتؤدي إلى تآكل الروح المعنوية والالتزام. 

لذا، فإن التعامل مع الفشل المهني يتطلب فهما عميقا للجوانب الاجتماعية والنفسية التي تحكم استجابات الأفراد. يجب على المنظمات والجماعات المهنية أن تسعى لخلق بيئات تدعم التعلم من الفشل، وتشجع على الشفافية والمساءلة، وتقلل من الحوافز التي تدفع الأفراد إلى تبني سلوكات دفاعية سلبية. وبالتالي بناء جماعات مهنية أكثر صحة وإنتاجية، تنظر إلى الفشل كفرصة للنمو بدلا من كونه وصمة عار.

تعليقات