📁 تدوينات جديدة

الوصية | أحمد الوارث


 أحمد الوارث | المغرب

كان يمشي متثاقلا، يريد الانتقال إلى العربة المجاورة. حاول جاهدًا فتح الباب ولم يفلح؛ فسوء حالته بسبب قلة العناية والتراخي في استبدال قطع الغيار جعله عصيًا، يتطلب جهدًا كبيرًا لكي يتزحزح. أسعفتُه بحاجته، فالتفت إلي، وهو يغادر، ليشكرني مبتسمًا. رجل رمى به العمر وراء عتبة الخمسين، أو لربما لم يبلغها بعد، لكن أعراض وجهه متعبة كادحة. يظهر من لباسه جلباب صوفي باهت بياضه، ويُلِفّ على رأسه عمامة من ثوب طويل كالرزة.

نسيت أمره، وصرفت اهتمامي إلى مصابيح دماغي المشتعلة تارة، وتارة أخرى أنشغل ببؤس الفضاء الذي يخترقه القطار في مدينة قيل عنها إنها نظيفة. لم أستفق من غفوتي إلا على اهتزاز الباب مرة ثانية. كان الرجل ذاته يعاركها من الجهة الأخرى، كأنه يطلب المساعدة. هرعت إلى نجدته، فواصل طريقه، بعد أن رمى إلي بحكمة لا تخلو من قيمة. قال: بارك الله فيك، أوصيك يا ولدي: انتبه لنفسك.

بعد مسافة معتبرة، توقف القطار عند نقطة بعيدة قليلًا من المدينة، في مكان يكاد أن يكون خاليًا. على اليمين بناية المحطة، تعود إلى فترة الحماية الفرنسية. لكن الحق يقال، رغم أن الخلف فرّط فيها فلم يرعها بما يكفي، ظلت محافظة على قوامها وجمالها، ذات هندسة معمارية رائعة. فوق بابها الخارجي، إزاء سكة الحديد، قاعدة رخامية بديعة، رُسم فيها، بالفسيفساء من القطع الصغيرة الملونة، اسم البلدة باللغتين العربية والفرنسية، تعلوه عبارة: لا غالب إلا الله.

وأنا أقرأ وأتأمل في الحروف وأشكالها، سمعت أحد الظرفاء يعقب على قول صديق له يشتكي من بطء الرحلة، وهو واقف يبحث عن أغراضه في رفوف الأمتعة: أكيد أن الاستعمار استعمار، لا أجادل في الأمر ولا أرتضيه، لكن الحمد لله أن فرنسا مرت من هنا يومًا، وإلا لظلِلنا إلى اليوم نركب الدواب للسفر إلى المدينة.

أثناء دقيقتي توقف القطار، رميت بنظري بعيدًا في الجهة اليسرى. كان ثمّة بيوت متباعدة، حواليها بساط أخضر احمرّت خدود أزهاره حتى بدت كفتيات جبالنا العالية وقت الصقيع، وأشعة الشمس تغازل من العلياء سنابل الزرع فتتراقص لها مزهوة، وتتمايل حتى تكاد تلامس التراب، إغاظة في الأشجار والأزهار.

بمحاذاة المنزل القريب صبية يلعبون، وفي الحقل المجاور بقرة استسلمت لرضيعها، وحمار يحادث الأتان علّها تسامحه، وديك ارتقى حجرة تحيط به زيجاته من كل جهة، واحدة فقط انفردت بنفسها تبحث لأبنائها عن طعام ملائم. طبيعة خلابة، ومناظر ذات بهاء يريح النفس؛ انشرح لها صدري وتبسّمت، مستسلمًا لأحلام كثيرة.

كان بعض الركاب يغادرون إلى تلك الضفة فِرَقًا وفُرادَى. أثار، من بينهم، انتباهي ذاك الرجل نفسه؛ كانت مشيته وهو يترنح توحي بأن الإعياء بلغ به مبلغًا عظيمًا، وأن حالته التي صار عليها تتطابق مع القول المعروف: بلغ السيل الزُّبى؛ ذلك المثل الذي يُضرب للأمر إذا اشتد حتى جاوز الحد. تابعتُه بنظراتي، وهو يحاول أن يقفز علوًّا فاصلًا بين الرصيف وما والاه، فلما رأى أنه لا يستطيع، جلس على طرف الحافة، ومدّ رجليه حتى لامستا التراب فوقع، ثم استقام واقفًا بما تبقى له من قوة. زرف في مشيه مسافة قليلة، وشمّر جلبابه بسرعة مذهلة، وأنزل سرواله أرضًا، غير مبالٍ بأحد؛ همّه الأساس التخلص مما تجمع في مثانته.

كنت أنظر إليه، والقطار يغادر. انتابتني رغبة شديدة في الصراخ، حين فهمت عمّا كان يبحث في القطار متنقلًا بين العربات، معاركًا صلابة الأبواب الصدئة، يعالج وجعه في صمت رهيب. هنا أيضًا أدركت، بأسًى شديد وحزن عميق، أن الرجل لم ينطق عن الهوى، حين اختار أن يكافئني على مساعدتي له بقوله: انتبه لنفسك يا ولدي.

آه، يا ربّي، الرجل لم يوصِني بشيء آخر... أكيد أنه يجرّ مع جلبابه قصة من القصص التي حولت حلاوة السكر في حياته إلى مرارة.

السرد الواقعي في القصة القصيرة: «الوصية» 

تعليقات