تُوِّجت الكاتبة الهندية «بانُو مُشتاق» Bano Mushtaq بجائزة البوكر العالمية عام 2025م، وهي ليست أديبة هندية فحسب، بل هي ناشطة
في مجال حقوق الإنسان، وصوت احتجاج جماعي، ومحرزة مكانة جديدة للمرأة الكانادية المسلمة
في عالم الأدب. وأعمالُها تمثل تحولا من أدب القهر والاستسلام إلى أدب المقاومة والتحدي،
ومن المرأة الضحية المستكينة إلى استعادة الذات الأنثوية الأبية.
المجموعة القصصية الفائزة «مصباح القلب» Heart Lamp كتبت بلغة «الكانادا»، وهي اللغة التي يتحدث بها نحو (65) مليون شخص في
جنوب الهند. وقامت بترجمتها إلى اللغة الإنجليزية الصحافية الهندية «ديبا بهاستي» Deepa Bhasthi، التي قرأت جميع الأعمال القصصية التي نشرتها «بانُو مُشتاق» منذ عام
1990م، قبل أن تختار القصص التي ستشكل هذه المجموعة. تقول المترجمة: «كنت محظوظة بحرية
الانتقاء، ولم تتدخل بانُو في العملية».
رأت لجنة تحكيم جائزة البوكر الدولية أن قصص «مصباح
القلب» Heart
Lamp ليست مجرد عمل أدبي، بل شهادة تعكس قيمًا أخلاقية
وسياسية عميقة. وأوضحت أنه من خلال اثنتي عشرة قصة قصيرة، كتبت عبر ثلاثة عقود، تتجرأ
«بانُو مُشتاق» على الجهر بالحقيقة في مواجهة السلطة. فتقدم من خلال هذه القصص سيرة
فتيات ونساء مسلمات على أطراف المجتمع الهندي، متخطية الحدود الطبقية والدينية، لتكشف
عن أوجه القمع والظلم والعنف والفساد.
كما تعيد لنا «مصباح القلب» متعة القراءة الحقيقية
والعظيمة: سرد قوي، شخصيات لا تُنسى، حوارات حية، توترات تكاد تشتعل تحت السطح، ومفاجأة
في كل منعطف. تبدو القصص بسيطة، لكنها تحمل ثقلًا عاطفيًا وأخلاقيًا واجتماعيًا وسياسيًا
هائلًا، تدفعنا للحفر أعمق.
كما وصفت لجنة التحكيم شخصيات قصص مجموعة «مصباح
القلب» بأنها: «صور مذهلة للقدرة على الاستمرار»، مشيدة بموقف الكاتبة الحازم بلا مهادنة
من طغيان النظام الأبوي والطبقية والتطرف الديني على المجتمع الهندي.
من جهته قال رئيس لجنة تحكيم جائزة البوكر الدولية
لعام 2025 «ماكس بورتر» Max Porter: «مصباح القلب مجموعة قصصية جديدة كليًا بالنسبة
للقراء الإنجليز. إنها ترجمة جذرية لقصص جميلة تُضفي لمسة جديدة على اللغة، لتخلق نسيجًا
جديدًا في تعدد اللغات الإنجليزية. إنها تثير تساؤلات وتوسع فهمنا للترجمة».
كما صرح بأن القصص، على الرغم من كونها نسوية وتتضمن
سردًا مذهلًا عن أنظمة أبوية ومقاومة لها، إلا أنها بالدرجة الأولى حكايات جميلة عن
الحياة اليومية، سيما حياة النساء.
وقد قالت الكاتبة «بانُو مُشتاق» في كلمتها أثناء
تسلمها جائزة البوكر الدولية: «ولدت هذه القصص من الاعتقاد بأن أي قصة ليست صغيرة على
الإطلاق؛ وأن كل خيط في نسيج التجربة الإنسانية يحمل وزن الجميع»، وأضافت: «في عالم
يحاول في كثير من الأحيان تقسيمنا، يظل الأدب أحد آخر المساحات المقدسة التي يمكننا
أن نعيش فيها داخل عقول بعضنا البعض، ولو لبضع صفحات فقط». كما قالت: «هذه الجائزة
لا تخصني وحدي، بل تعود لكل امرأة قيل لها: اصمتي».
يمثل فوز «بانُو مُشتاق» بجائزة البوكر الدولية لحظة
تحول مفصلية في تاريخ الأدب الهندي عامة، وأدب لغة الكانادا خاصة، ذلك أنه يسلط الضوء
على التنوع اللغوي والثقافي الغني في شبه القارة الهندية. كما يفتح آفاقًا جديدة أمام
الأعمال الإقليمية لتخترق الساحة العالمية.
والكاتبة تنفخ في مجموعتها القصصية «مصباح القلب»
روحًا جديدة في أدب الالتزام، ولا نعني هنا الالتزام بالمعنى الضيق الذي يضحي بفنية
الأدب لصالح الأفكار وبالتالي يتحول إلى بوق لها، بل الأدب الملتزم بفنيته باعتباره
أدبًا، وبتسليط الضوء على القضايا العامة من خلال تصوير أوضاع بعينها. كما تتميز قصص
المجموعة بأسلوب السرد الجذاب، الذي وصفه أعضاء هيئة تحكيم الجائزة بأنه فكاهي وحي
وعاطفي ويؤثر في النفس.
كما يعد فوزها بالبوكر دليلًا دامغًا على أن الأدب
الأصيل لا يعرف حدودًا جغرافية أو لغوية، وأن الصوت الحقيقي قادر على عبور الحواجز
حين يقدم بصدق وأصالة. فالمجموعة القصصية «مصباح القلب» ليست مجموعة قصصية فحسب، بل
هي مصباح أدبي صغير أضاء على معاناة النساء العاديات في منطقة من العالم ظلت لفترة
طويلة خارج بؤرة الضوء، وجعل منهن بطلات في أعين القراء، ووسع من حدود دهشتنا بعمق
التعبير الأدبي عن التجربة البشرية في سياقاتها المتنوعة.
أيضًا فإن فوزها يعتبر كسرًا للتقاليد المعتادة لجائزة
البوكر، حيث تمنح فيها الجائزة لمجموعة قصصية، في إشارة مهمة لتحريك الرواية عن عرش
الجوائز، وعودة سطوع نجم القصة القصيرة من جديد، ورد اعتبارها، وهي التي لا تحظى –
عادة – بما تحظى به الرواية من أهمية وانتشار، وهذا تأكيد لأهمية هذا الجنس الأدبي
الذي ربما سيكتسب حضورًا أكثر قوة في عصرنا الرقمي.
وهي المرة الأولى كذلك التي تتوج فيها الجائزة نصًا
مترجمًا عن اللغة الكانادية، وهي اللغة الرسمية لولاية «كارناتاكا» في جنوب الهند.
ومن اللافت أيضًا أن «بانُو مُشتاق» تعد أكبر الفائزين بالجائزة سنًا، إذ تبلغ من العمر
(77) عامًا.
تكتب «بانُو مُشتاق» عن القهر اليومي، عن التسلط
الذكوري، عن النساء المكبلات بالقمع. تصوغ حكاياتها بلغة شعرية، دون أن تتخلى عن الشجاعة
في مواجهة البنى الاجتماعية التي تقيد النساء – وخاصة المسلمات والداليت (المنبوذون)
– في دوائر التهميش. قصصها، رغم بساطة سردها، تضيء زوايا قاتمة من واقع نساء مهمشات،
في مجتمع يغلب عليه الطابع الذكوري الأبوي، وتناقش بصوت واضح مفاهيم الحرية والاختيار
والسعادة. شخصياتها ليست ذات طابع مكاني خاص ببلد بعينه أو مجتمع بذاته، وبذلك تنطبق
على كل زمان ومكان.
إن أسلوب «بانُو مُشتاق» يتميز بالبساطة والعمق العاطفي.
فهي ترفع التفاصيل اليومية العادية إلى مستوى أدبي إنساني، يمكن أن يجد صدى عند القارئ
في أي مكان في العالم. الشخصيات النسائية في قصصها ليست مجرد ضحايا، بل نساء يخضن صراعات
وجودية تتعلق بالكرامة والحب والانتماء والتمرد الصامت على القهر الاجتماعي.
كما يجمع أسلوبها في الكتابة بين الطرافة والحيوية
والبلاغة والمشاعر والنقد اللاذع، وهو ما يتجلى في شخصياتها المتنوعة، مثل الأطفال
المتألقين، والجدات الجريئات، والإخوة الأشرار، والأزواج غير المحظوظين، والأمهات اللواتي
يكافحن للتغلب على مشاعرهن بثمن باهظ.
وعن طبيعة كتابات «بانُو مُشتاق»، تبين الكاتبة الهندية
الدكتورة «مينا أومايبان» أنها تستلهم كتابتها من واقع نساء جنوب الهند، وخاصة من يعشن
في الهامش المزدوج للانتماء إلى الأقلية المسلمة. وهي تنسج قصصها من خيوط التجربة اليومية،
لتسلط الضوء على صراعات المرأة في مواجهة سلطة الدين والمجتمع والسياسة، وتكشف كيف
تتحول الطاعة المفروضة إلى قسوة مجردة من الإنسانية.
وقد قالت «بانُو مُشتاق» في مقابلة أجريت معها بمناسبة فوزها بجائزة البوكر: "قصصي تدور حول النساء، وكيف أن الدين والمجتمع والسياسة تفرض عليهن طاعة عمياء، وتمارس في حقهن قسوة لا إنسانية. إن معاناة هؤلاء النساء وآلامهن وعجزهن تترك في نفسي أثرًا عميقًا يدفعني للكتابة."
