أ. نادرة قاسمي | تونس
تُعدّ البيداغوجيا الفارقية من المقاربات التربوية الحديثة التي تسعى إلى
تجديد العملية التعليمية من خلال مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين. فهي تنطلق
من فكرة أساسية مفادها أن التلاميذ يختلفون في قدراتهم المعرفية، وميولاتهم،
وأنماط تعلمهم، مما يستدعي تنويع أساليب التدريس وطرائق التقييم لتلبية حاجات كل
فرد داخل الجماعة الصفية. وتنبع أهمية هذه المقاربة من كونها تجعل من الاختلاف
مصدرَ غنى وتكامل، وتسهم في تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص التعليمية وتمكين كل متعلم من
بناء معارفه وفق إيقاعه الخاص.
في قلب كل تجربة تعليمية-تربوية يظهر السؤال حول كيفية جعل المعرفة تصل
إلى كل عقل بطريقة شخصية. فكيف يمكن اعتماد الفارقية كمدخل بيداغوجي إنساني يتيح
فهما أعمق لسلوك التلميذ ويعزز ممارسات المرافقة التربوية داخل الفعل التعليمي؟
لا تنظر البيداغوجيا الفارقية إلى التعلم كعملية جماعية واحدة، بل تدرك
أن كل متعلم يحتاج إلى تأطير خاص ومرافقة دقيقة. فالتأطير هنا ليس مجرد إدارة
للدرس وتقويم سلوك فردي فحسب بل هو حضور واع يوجه ويستمع، والمرافقة ليست تعليما
فقط بل مشاركة في رحلة الاكتشاف، حيث يصبح المربي مرشدا يفتح أبواب الفهم لكل
تلميذ بحسب إيقاعه وخصوصيته.
التعليم والتعلم، إذن، يصبحان حوارا حيا بين ما هو معلوم وما يحتاج
المتعلم المتلقي لاستكشافه، مدعوما برعاية دقيقة ومستمرة. لذا فإن البيداغوجيا
الفارقية، كما بلورتها الباحثة الفرنسية ماري كريستين ميريو: "ليست بيداغوجيا
للتمييز، بل بيداغوجيا للعدالة، تهدف إلى منح كل متعلم فرصة للنجاح حسب خصوصياته
وقدراته"، فهي تصور بيداغوجي يفترض أن الاختلافات بين المتعلمين لا تعيق
التعلم، بل يمكن أن تتحول إلى فرصة بيداغوجية إذا ما تم التعامل معها بمرونة. وهي
تتجاوز المساواة الشكلية التي تعامل الجميع بنفس الطريقة، لتدعو إلى عدالة تربوية،
أي تكييف الممارسة البيداغوجية حسب حاجات كل متعلم.
البيداغوجيا الفارقية هي طريقة حديثة في التعليم تقوم على فكرة أساسية،
وهي أن المتعلمين ليسوا جميعا متشابهين. فكل واحد منهم يختلف عن الآخر في قدراته،
وطريقته في التعلم، وسرعته في الفهم، إضافة إلى خلفيته الاجتماعية والثقافية. لذلك
تهدف هذه المقاربة التربوية إلى تكييف طرق التدريس أو التأطير والارشاد (والأمر سيان) والمحتوى ووسائل التقييم
والتوجيه حتى تناسب هذا التنوع في كليته، من أجل تحقيق العدالة التربوية، أي أن
يحصل كل تلميذ على ما يحتاجه فعلا لينجح، بدل الاكتفاء بالمساواة الشكلية التي
تفترض أن الجميع متساوون في القدرات. وتُعدّ البيداغوجيا الفارقية من أهم التطورات
التي عرفها الفكر التربوي المعاصر، لأنها تقوم على فكرة أن كل متعلم يختلف عن
الآخر في القدرات، وطريقة التعلم والتفكير، والخلفية الاجتماعية والثقافية،
وبالتالي فهي تدعو إلى تكييف أهداف التعلم، وطرائقه، ووسائله، وأساليب التقويم بما
يتماشى مع هذه الفوارق. فبدلا من النظر
إلى القسم الدراسي أو حصة المراجعة كمجموعة متجانسة، تؤكد هذه المقاربة أن
التلاميذ مختلفون في أساليب التعلم والتربية، وأن النجاح لا يتحقق بالأسلوب الواحد
نفسه للجميع، بل من خلال تنويع طرق التعليم والتقييم والتوجيه حسب احتياجات كل
واحد منهم.. ويتقاطع هذا التوجّه مع فلسفة التأطير والإرشاد والإصغاء، التي تعتبر
أن دورالقَيِّم كمرشد ومصغي لا يقتصر على نقل المعلومة، بل يتعداه إلى مرافقة
المتعلم المتلقي وتوجيهه وتشجيعه على التعبير عن ذاته. فالإصغاء إلى حاجات
التلاميذ وصعوباتهم يمكّن القَيِّم، كما الأستاذ، من فهمهم بشكل أعمق، ومن تكييف
الممارسات التربوية بما ينسجم مع قدراتهم الفردية. وبهذا، تصبح البيداغوجيا الفارقية، حين تُدمج
بالتأطير والإرشاد، مقاربة شمولية تهدف إلى بناء علاقة تربوية قائمة على الاحترام،
والتفاعل، والدعم المستمر، بما يضمن إنصاف كل متعلم ونجاحه داخل المدرسة.
لقد ظهرت البيداغوجيا الفارقية كردّ فعل على محدودية الطرق التعليمية
التقليدية التي كانت تفترض أن جميع المتعلمين يتعلمون بالطريقة نفسها. ومع تزايد
مشكلات مثل الفشل الدراسي والانقطاع عن الدراسة، أصبح من الضروري اعتماد طرق جديدة
تراعي اختلاف قدرات المتعلمين واهتماماتهم.
ومن أهم الأسس التي ساهمت في تطوير هذا التوجّه نظرية الذكاءات المتعددة
للعالم هوارد غاردنر، التي تؤكد أن الذكاء ليس نوعا واحدا، بل يتوزع إلى عدة
مجالات، مثل الذكاء اللغوي والمنطقي والبصري والجسدي والموسيقي والاجتماعي وغيرها.
وهذا يعني أن التعليم الناجح يجب أن يكون متنوعا ومرنا حتى يستجيب لاختلاف أنماط
المتعلمين.
كما أن التحولات الاجتماعية والثقافية والتنوع داخل الفصول الدراسية فرضت
تجاوز فكرة "المتعلم النموذجي"، والاعتراف بأن لكل متعلم طريقته الخاصة
في الفهم والتفاعل. وهنا يبرز دور التأطير والإرشاد التربوي كعنصر مكمل
للبيداغوجيا الفارقية، إذ يساعد الأستاذ المتعلم على معرفة نقاط قوته وضعفه،
ويوجهه بطريقة تتناسب مع أسلوبه في التعلم.
وتكتمل هذه المقاربة من خلال الإصغاء الفعّال إلى حاجات التلاميذ، وفهم
ظروفهم وسياقاتهم المختلفة، مما يجعل العلاقة التربوية أكثر إنسانية وتفاعلية. وبذلك،
تصبح البيداغوجيا الفارقية إطارا شاملا يجمع بين التعليم والتأطير والإرشاد
والإصغاء، بهدف تحقيق العدالة التعليمية وتكافؤ الفرص، وضمان نجاح كل متعلم وفق
إمكاناته الخاصة.
لا يمكن الحديث عن بيداغوجيا فارقية فعّالة دون ربطها بمسألة فهم سلوك
المتعلم داخل الفضاء المدرسي، لأن التلميذ لا يتلقى المعلومات ويتعلم فقط من خلال
المعارف، بل أيضا من خلال تفاعله النفسي والاجتماعي مع محيطه. فكل سلوك يظهره
المتعلم داخل القسم يعكس جانبا من حاجاته أو صعوباته أو طريقته الخاصة في التفاعل
مع الوضعيات التعليمية.
ومن هنا، تلتقي البيداغوجيا الفارقية مع فلسفة التأطير والمرافقة
التربوية، إذ لا يمكن تشخيص الفروق الفردية بدقة دون الإصغاء الحقيقي للتلميذ
ومرافقته في مساره الدراسي والشخصي. فالتأطير لا يقتصر على التوجيه الأكاديمي فقط،
بل يمتد إلى دعم المتعلم نفسيا واجتماعيا، ومساعدته على تجاوز العراقيل التي قد
تؤثر في تعلمه وسلوكه.
كما تُظهر التجربة التربوية أن كثيرا من السلوكيات المزعجة في القسم ليست
ناتجة عن سوء نية أو عدوانية، بل عن عدم توافق بيداغوجي بين طريقة التدريس وإيقاع
المتعلم أو اهتماماته. وهنا يبرز دورالقَيِّم في التأطير والمرافقة من خلال فهم
خلفيات السلوك وتقديم حلول تربوية بدل اللجوء إلى العقاب أو الإقصاء. وبذلك، تصبح
البيداغوجيا الفارقية، عندما تُمارس في إطار من التأطير والإصغاء والمرافقة
المستمرة، أداة فعالة لبناء علاقة تربوية إنسانية قائمة على الثقة والاحترام
المتبادل. فهي لا تكتفي بتكييف الدروس والأنشطة، بل تضع المتعلم في قلب العملية
التعليمية، باعتباره ذاتا فاعلة لها حاجات شخصية ومشاعر فردية، لا مجرد متلقّ
للمعرفة.
إن التأطير هنا يُضفي على الفارقية بُعدا إنسانيا عميقا، يجعل من المدرسة
فضاءا للتعلّم والنمو الشخصي في آن واحد، ويجعل من المدرّس مؤطرا، فيتجلى دور
المؤطر خارج القسم باعتباره مصغيا ومرافقا قبل أن يكون ناقلا للمعرفة. وهكذا تتحقق
العدالة التربوية الحقيقية التي تقوم على الإنصاف والإصغاء والتفاعل الإيجابي مع
اختلافات المتعلمين.
بالإضافة إلى ذلك، فرضت التحولات المجتمعية مثل التنوع الثقافي، وانتشار
الرقمنة، والانفتاح العالمي، واقعا جديدا على المؤسسات التعليمية يتطلب مراجعة طرق
التدريس وأساليب التقييم والتوجيه.
وفي هذا السياق، تصبح الفارقية أداة تربوية متكاملة، ترتبط بفلسفة
التأطير والمرافقة، حيث لا يقتصر دور المدرّس على نقل المعرفة، بل يمتد إلى مرافقة
التلميذ، الإصغاء له، ودعمه في بناء مساره الدراسي والشخصي. كما تساعد هذه
المقاربة على تحقيق العدالة والإنصاف التربوي، بما يضمن تكافؤ الفرص وظروف التعلم
لجميع المتعلمين، وليس مجرد تحقيق نتائج موحدة. وتدعو البيداغوجيا الفارقية إلى
إعادة النظر في التربية، ليس كعملية تلقين، بل كمرافقة وجودية، يلتقي فيها المتعلم
والمربّي في فضاء من الثقة والاحترام. فكل متعلم مختلف في قدراته وطريقة تعلمه،
وما يمتلكه من ذكاء ومهارات، ولذلك تحتاج المدرسة إلى تكييف طرق التدريس والتقييم
وفق هذه الفروق الفردية. إذ لا يقتصر دور المربّي على الشرح والتعليم، بل يشمل
التأطير والإصغاء والمرافقة، لدعم كل متعلم في مساره الدراسي والشخصي، وفهم دوافع
سلوكاته وتفاعلاته. بهذا الأسلوب، تتحقق العدالة التربوية ويُضمن لكل متعلم حقه في
التعلم وفق قدراته واحتياجاته، بدل الاقتصار على أسلوب واحد للجميع. ولعل منظومتنا
التربوية في تونس اليوم تمر بمرحلة حرجة، فالأرقام المتعلقة بالفشل المدرسي
والانقطاع المبكر عن الدراسة، وتراجع ترتيب التلاميذ في الاختبارات الدولية، تعكس
أزمة تحتاج إلى وقفة حقيقية. من عدة تجارب ذاتية وموضوعية، نلاحظ أن الطرق
التقليدية للتدريس، التي تعتمد على التوحيد والتجانس، لم تعد تكفي للتعامل مع تنوع
قدرات التلاميذ ظروفهم الاجتماعية وخلفياتهم الثقافية.
في هذا الإطار، نرى أن التأطير والإرشاد يصبحان ضرورة، ليس فقط لتوجيه
التلاميذ، بل للاستماع لهم وفهم احتياجاتهم الفريدة. فالبيداغوجيا الفارقية، من
هذا المنظور، ليست مجرد نظرية، بل هي دعوة لتفريد التعليم وتكييفه مع خصوصيات كل
متعلم، مما يتيح لكل واحد منا أن يشعر بالاعتراف والاحترام لخصوصيته وقدراته.
نتساءل إذن: هل المدرسة الحديثة، إذا لم تعتمد على الإصغاء والإرشاد
الفردي، قادرة حقا على تلبية احتياجات كل تلميذ متعلم؟ وهل مجرد المساواة بين
الجميع تكفي لتحقيق العدالة؟
يبدو أن تفرد المتعلم وتوفير الدعم الشخصي من خلال التأطير والإرشاد هو
الطريق الأمثل لتحقيق عدالة تربوية حقيقية، تجعل من كل تجربة تعليمية فرصة للنمو
والتقدم. فالبيداغوجيا الفارقية ليست مجرد تقنية لتحسين الأداء المدرسي، بل هي
تصور تربوي وإنساني يهدف إلى بناء مدرسة أكثر عدلاً واحتواءً. فهي تحوّل الفصل
الدراسي من فضاء موحد قائم على المعيارية إلى فضاء دامج يُثمن إمكانات كل فرد. حين
تصبح العدالة هدفًا تربويًا، يصبح الاختلاف فرصة للتعلم والنجاح، وتعد المتعلمين
لمجتمع قائم على التنوع والتكافؤ.
في نهاية المطاف، التعليم الفارق لا يكتمل إلا بتأطير ومرافقة متواصلة،
لأن كل عقل يحتاج إلى بصيص من الإرشاد ليجد طريقه الخاص. لذلك فإن التوجيه الدقيق
والمرافقة الصادقة تفتح للتلميذ فضاءات جديدة للفهم، وتجعل التعلم أكثر إنسانية
وعمقا. ا فيلتعليم هنا ليس مجرد نقل للمعرفة، بل هو فنّ مرافقة أسها النصح
والتوجيه، حيث يتحول كل درس يلقنه المدرس وكل سلوك يروضه ويهذبه القيم، إلى فرصة
لاكتشاف الذات المتلقية، سواء للمعلومة أو للنصيحة، وكل توجيه إلى جسر يصل بين
المعرفة والروح الفردية لكل تلميذ.
البيداغوجيا الفارقية تجعل من كل تلميذ قلب العملية التربوية التعليمية،
المدرس ناقلا للمعلومة ومسيطرا منظما لسلوك التلميذ داخل القسم، كذلك القيم(ة)
مرشد ومؤطر يصغي ويواكب كل فرد وفق إمكاناته. فالتلميذ متلقي ومتعلم يصبح فاعلا
ومسؤولا عن تعلمه، أما المحتوى والطرائق تتكيف مع اختلافاته. نجاح هذا النهج يحتاج
إلى تأطير وإرشاد مستمر، وإصغاء حقيقي، وإرادة مؤسساتية توفر الدعم والموارد
اللازمة. في هذا السياق، تتحول المدرسة إلى فضاء عادل وشامل، يثمن الفروق ويحول
اختلاف الآخر إلى فرصة للتعلم وإعادة التفكير في الذات والمجتمع.
إذن تقوم البيداغوجيا الفارقية،
بماهي مقاربة تربوية، على فكرة أن كل متعلم يختلف عن الآخر في القدرات، وتيرة
التعلم، نمط التفكير، الخلفية الاجتماعية والثقافية، وبالتالي فهي تدعو إلى تكييف
أهداف التعلم، وطرائقه، ووسائله، وأساليب التأطير، التوجيه والتقويم بما يتماشى مع
هذه الفوارق.
المراجع:
1. Meirieu, P. (1996). La pédagogie différenciée. ESF Éditeur.
2. السالمي، علي. (2019). بيداغوجيا الفارقية: مقاربة تطبيقية
في ضوء التجارب الحديثة. مجلة العلوم التربوية، العدد 17
3. اليحياوي، سامي. (2021). "إشكاليات التنوع والإنصاف في
المدرسة التونسية". مجلة الفكر التربوي العربي.
4. اليونيسكو – مكتب المغرب العربي. (2020). تقرير حول تحديات
التعليم في تونس بعد كوفيد-19.