لحسن ملواني | المغرب
يعتبر الكاتب المغربي إدريس الجرماطي من الكتاب الذين
تشربوا بمتعة وجدوى الكتابة، ومنذ إصداره الأول وهو يسعى من أجل إبصامات نوعية ترسم
خصوصياته في مجال الإبداع الأدبي... وقد توالت مؤلفاته ليصل بنا إلى إصداره الأخير
المعنون بـ "ملكة الظل"، وهو عبارة عن رواية تسافر بالقارئ عبر عوالم متخيلة
ماتعة وغريبة، علاوة على وصف مثير من عدة جوانب، وسنخصص له هذه المقالة بعد توصيف عام
للرواية.
توصيف عام للرواية
1 ـ حجم الرواية
جاءت الرواية في 258 صفحة من الحجم المتوسط، وقد
جاء السرد ضمنها مسترسلا متواصلا دون اقتطاعه بفصول كما هو المعتاد في كثير من الروايات.
والرواية آخر ما صدر للكاتب عن دار Net Impression للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 2025م.
2 ـ غلاف الرواية
صيغت معطيات الغلاف صياغة فنية ضمن مسحة جمالية بخلفية
سوداء، وبلوحة للتشكيلي المغربي لحسن ملواني، وهي لوحة تجريدية تحمل دلالات كثيرة عبر
تشابك أشكالها وألوانها وخطوطها مما جعلها تنضح بدينامية وحركية خاصة، وتضع المشاهد
أمام تجربة مثيرة للانفعال والتأم فهي تنم عن لواعج ومشاعر داخلية لأكثر من كائن والمحدق
فيها تأسره حياة مفرداتها عبر التركيبة المؤطرة لها مما يجعلها مشهدا مثيرا لأكثر من
تساؤل حول عمقها الروحي والفلسفي.
والقارئ للرواية سيجد أن هذه الأخيرة مفعمة بأجواء
ومعطيات متداخلة تداخلا دراميا مما يجعل اللوحة سندا لدلالاتها وأفكارها وأحداثها.
3 ـ عنوان الرواية
اقترح الكاتب لروايته عنوان "ملكة الظل"
وهو اسم لبطلة تعتبر ملكة الظل، مما يثير تساؤلات المقبل على قراءة الرواية منها:
ـ من تكون هذه الملكة التي تشتغل في الظل، علما أن
المشتغل في الظل هو الفاعل المشتغل عيدا عن الأضواء؟
ـ الدوافع التي جعلة الملكة ملكة ظل بدل ملكة منخرطة
بوضوح فيما يعتمل في المجتمع الذي تديره.
ـ أهذه الملكة عادية التكوين والنشأة أم أنها تأتي
بخوارق معجزة مما يجعلها ذات سلطة قوية وراء الحجب؟
ـ كيف يمكن لهاته الملكة من تسيير أمور مملكتها وهي
في الظل؟ أم أن لها يد قوية عبر حاشيتها بحيث تنفذ أوامرها بدقة وخضوع تام؟
4 ـ خطاب الغلاف الأخير
وقد اقتبس الكاتب جزءا من روايته، من الصفحة 13 وجزءا
من الصفحة 14 ليجعله ضمن عتبات الرواية الخاصة بالغلاف الأخير. وهو كالتالي:
"هنا خلقت (ماودة) لتخابر الأنفاس الطيبة، دون
معصية ولا ترتيب ولا اعوجاج، يحتاج فيها القلب إلى تفسير آيات النعيم، طوفانها أمل
يسري في البواطن الهوجاء، تأتي على لب الأحشاء، ويصير العشب جرعة لكل الجراح، تفرش
القطن على أرجل الأيتام، تدهن رضاب الأمنيات، ثم تداعب الوجدان في صفاء الوجوه. هي
الأم ذات الخبز الذي يملح جوع الأمعاء في دروبها العميقة، هي الأم التي تتباهي بالظل،
وتطهي منه خبزها لفرسان القبيلة. أهالي تلك الأرض يعلوهم جحود التحدي، فلا ضبع يخطو
الوطن الصغير، ولا أسد يستطيع أن يزأر وقت الحصاد، وصوت الدجاج يسبح عبر صياح الأعالي،
ورائحة العشب تمتد لتصير دواء كل الأمراض، جحود الأهل يحمل عزة في أنفاسهم الموقرة
حدود اللاسقوط، حدود اللاتنازل عن مكارم الأشخاص، تنديد وهياج وصوت النخوة يسلط رماحه
صوب السماء، فلا خلق خارج الدائرة يستطيع أن يدخل الأرض ما لم يأذن بالسلم والسلام،
فلا عقوبة لأسيادها. هي التربية في اختيار الألفاظ، أناس خلقوا ليكونوا خلافا للاختلاف،
بصموا على خلايا الهوس، وانشقت الأرض بثلج بردهم، وتبرزت أقدامهم من لهيب النيران،
وجعلوا لمقاساتهم فلسفة لا يخالها راهب ولا كنسي، يسلمها بأمن من أسلم وجهه للأقدار،
وإن خالف الشرع فلا ذنب على الجلاد، الجلاد لا سوط له، لا شيء غير صوت لسانه الغابر
والموحش بالألغاز، تلك التي تكون أشد من السلاح، وتضاهي الرماح المرعبة. كل هذا في
القرية البعيدة المستسلمة لأهواء العدل والنبوغ، والأمهات في القرية يطرزهن الوقار…"
هذا المقطع من الرواية يعاضد عنوانها من حيث كونه
من عتبات قراءة الرواية، وهو مقطع يشير إلى كون ماودة باعتبارها راعية وأما لمملكتها،
جاعلة مملكتها حصينة منيعة معتمدة في ذلك على صفاء السرائر والقيم، متماهية ومتواصلة
مع تضاريس ونبات المكان.
5 ـ الوصف في الرواية
إن الرواية في حقيقتها صور معروضة نسجت بمخيلة وأسلوب
الكاتب، والوصف عنصر يعم كل مكونات الرواية من شخصيات وزمكان، ومشاعر، وكل ما يتحرك
في فضاء الرواية وأحداثها. وفي ذلك إفادة للقارئ حيث تتم متعته وتفاعله بما يرتسم في
أحداث الرواية، ومن هنا نرى استحالة سرد متكامل من دون أوصاف تتخلله، وتطعنه بما يجعله
يتخيل وكأنه وقائع حية تعاش وتتذوق. فالوصف يثري النص، ويساعد على فهم حيثيات ما يحدث
مما يثير المشاعر، ويدفع إلى الاستفادة من الأحداث.
والوصف هو الإبانة والإبراز والإظهار، وقد يكون نفسيا،
وماديا، أو فنيا، ولا شك أن رواية
(ملكة الظل) تتميز بتقنية الوصف بكل أنواعها وتجلياتها، فالوصف فيها وصف رائع يجعل
كل صفحة من صفحاتها تجتذب التفكير وتتابع ما يحاول الكاتب إبرازه عبر دينامية وصفية
خاصة.
والمتصفح للرواية سيقف على أوصاف تستغرق فقرات، وتجعلك
تغرق في مؤشرات وفي مطارحات من أجل للقبض على ما تؤول إليه الأحداث بأوصافها المعمقة
للعلاقة بين القارئ والشخصيات والأحداث وفضاءات تتحرك ضمنها. وسنعرض لنماذج من أوصاف
الكاتب في الرواية ولنبدأ بالمقطع الذي بدأ به روايته والذي جعل الحدث مشهدا حيا ديناميا
بأوصاف متنوعة استغرقت أوصافا كثيرة يقول الكاتب:
"حين تبدي الليالي أماسيها علنا للناظرين على
شرفة الفيافي والأدغال والواحات، حين تبدي نظرة بلون العشق الجبلي، هنالك حيث يدمع
الشمع ويغسل رفوف جفونه التي تمنح الفيافي والأدغال من كلماتها سطورا تشتهيها النفوس،
وعلى قمم البلدة يسطع ضوء النجوم، حيث ترضع الجوارح من ثدي الخيال، وعلى فخذ الوجدان
ينام طفل الأحلام، يتوسد حكايات العشاق، وينثر من الحبات المزهرة المورقة، تلك التي
يقطفها من مشارف الوجد الأخاذ. على القمم تلك تزهو الشمس راكبة خيل الضحى، ترسل إليه
أشعتها مسترسلة كنبض ذهبي لا ينقطع لمعانا، يجري كخيط ماء عذب، آخذا من لونه البني
وشعره الذي يطفو على رقبته، مثل عريس في الجياد، ومن رزم الأنفس تدفئ شمسه ضلوع النهار،
في رحلة شمسية ترجو من خلالها الحوار مع حرارة الكثبان الرملية المتلألئة كشظايا الألماس
المنثورة في جوف الصحراء. أما القمر فيرعى النجوم حوله، يراها صبية تركض جنب النهر،
وفي رحابه تبدو مدللة غير مبالية، تسرق ضوءه القمري، دون أن تدرك أن الضوء المسروق
الذي يسري محياه، إنما هو انعكاس مرآتي لأم شرعية تتهجى لغة الكواكب والعوالم التي
تسكن السماء. وعلى أنفاس هذا الخلود الشاسع، شَهْد عسلي يقطر كما خيط رفيع، يعد الجبال
بنصاعته وصفائه الحلو، ومن إناء النكهة ذاك يرتشف الأحرار، أولئك الذين أنجبوا الأخلاق
والوفاء بينهم، بل وعلموه للأجيال من بعدهم وتوارثوه في أسمى تركيباته، وكذلك في طمعه
ألحان السيمفونيات الخالدة والراكضة في تناسق يعادل موسم الورد، في البلدة التي تجعل
له يوما خالدا ضدا على وجود اللوحات في الوجوه الكئيبة. عبر هذا العالم الذي مزقته
الجغرافيات، ثمة أخطاء في رسم الحدود والإحداثيات العشوائية في فصول أرض لا ترضى إلا
بالإنجاب الكوني الفطري المعهود، هروبا من الصخب والبساط المشتعلة بنار التدافع وعدم
التناسق بين الأشياء الجميلة، وبذلك اختار تلك القمم العالية، ومنها الجبل السامق الذي
نمت منه الجوهرة التي أسعدت الكون ومن حولها، وأغنت الأجواء بذكائها وجمالها، هي من
تنتقي من زهرات أرضها حسناوات يدافعن عن الأرض، ويرسمن سنين البلد بعبقرية تلامس أهداب
وأهداف النماء، أما اختيارها لموكب الرجال، فذلك من جلال الحكمة وتدبير على قرارات
أمة تستطيع الفصل في الأحكام، وتدير الأمور بنباهة وقدرة على رسم الأمل، ليكون عنوانها
ملكة في الظل، تعلو عرش القمم الجبلية، تسطع أنوارها بين الأدغال والأحجار والأشجار،
مؤمنة بأن العدل أساس الحياة…
بلون تلك
الشموع، وبلغة السيمفونيات الجبلية، تسطع مرائي الماء، تدلي بأدلتها بأن لا شيء يعلو
فوق الطبيعة، وتعتلي الأدلة أشعة الشمس التي توقد مصباحها الشعاعي رغبة في بسط الضوء
على العوالم المائية، تلك سيول لا تحيا الحياة في الأرض دونها، وبها يستقر القرار على
وجه البسيطة…
من ضوء الشمس،
تنحني الشروخ لتستقي دواء الألم، وتسعد الروح بأشعة تنفذ إلى أعماق الجراح، ثم تندمل
الأحلام في ذاكرة النسيان، هذا الذي تخلده قسوة الزمن على أبناء التربة المبللة بطهارة
الشجعان. أبرياء من دم الغدير، دماء تخشاها الجبال، وللظل عنوان ينجو فيه المستظلون
بأشجاره الباسقات، ظل ينجو معه أبناء القرية، وفي العوالم ركب يسبر لواعج سيدة أحالتها
الأيام على عفوية الأحداث، بها استطاعت أن تكون غرسة تشبه ظلها العبقي الوارف بين الأشجار…".
الوصف هنا ملتصق بالسرد وكأنهما وجهان لعملة واحدة،
سرد يعرض أمامك المسرود صورة كأنك تراها في لوحة فنية، صورة يختلط فيها أوصاف للآدميين
وأخرى لمظاهر الطبيعة ومكوناتها مشخصنة وكأنها كائنات حية تتزين وتتألم وتتباهى وتطمح...ف:
نظرة بعشق جبلي، والكلمات التي تشتهيها النفوس، وطفل الأحلام، والحبات المزهرة المورقة،
وأشعتها مسترسلة كنبض ذهبي لا ينقطع لمعانا، وحرارة الكثبان الرملية المتلألئة كشظايا
الألماس المنثورة في جوف الصحراء...." عبارات تحمل أوصافا تمظهر وتبين ما ترمي
إليه من مقاصد الكاتب.
والكاتب يستعمل بكثافة الصفات الجمل بدل الصفات بالأسماء
المفردة، مما يعزز سردية الأحداث بالشكل الذي يجعلك وأنت تقرأ الرواية أمام لوحات فنية
واصفة للحركات والسكنات، والثوابت والمتحركات...
والكاتب في أوصافه له القدرة التي نراها فائقة في
الدقة وهو يشير إلى الأحداث بأوصاف جملية واسمية، وفي ذلك نرى ولعه ودرايته بخصائص
وأنواع الوصف من حيث "استخدام أسلوب التعجب، والتمني، والمبالغة والمدح أو الذم
والمجاز. إدخال أفعال الماضي والمضارع، وعدم استخدام أفعال المستقبل بسين المستقبلية...
وقد اعتمد كثيرا على الوصف الظاهري باعتباره وصف الأشياء كما هي دون تغيير أو إعطائها
صفات تجملها أو تجعلها سيئة، والتحدث عنها كما رآها الواصف أمامه بكلمات منتقاة بعناية.
إلى جانب الوصف المعنوي الذي يتضمن الرموز، فيكون الوصف مبهماً يحتاج للتحليل للتوصل
للموصوف (انظر جريدة الزوراء العراقية "خصائص الوصف وأنواعه" بتاريخ:
2019/04/03م).
يقول واصفا "المتكلم عنها لا تخفى صورة وجهه
الحقيقي، لأن المكان سر دفين ونسيان قديم، سببه تثبيت التاريخ. ويحكي الراوي أن في
المقام ملكة لا تقبل النيام، وليس في نومهم أحلام عن المغارة. الجبل به قصر يشبه مغارة
بدون أبواب، وكأن التاريخ حلم صغير يكبر بين الأحلام، وبفعل تضاريس لا يمكنها تغيير
الملامح الخارجية، ولا من ينوي هدم الطبائع الداخلية، تلك التي تولدت عبر الجبال العالية
والأبراج المتينة…".
إن الرواية برمتها مفعمة بأوصاف لافتة تجعلها رواية
الوصف بامتياز، وقد ركزنا قراءتنا العابرة على عنصر الوصف فحسب، علما أن عناصر الرواية
من زمان ومكان وأحداث وشخصيات... تظل مفتوحة لقراءات متعددة ومتنوعة. في ديوان جماجم
غاضبة بسبب الطقس البارد، يقدم مبارك وساط كتابا شعريا لا يشبه كثيرا ما نراه في كثير
من دواوين النثر العربية اليوم؛ إنه مزيج من التأملات الذاتية والفانتازيا، من صور
تنزلق بين الحسي والرمزي، لتعيدنا إلى تلك الأزمنة التي تهتز فيها الروح أمام برودة
العالم وظلاله.