نادرة معمر قاسمي । تونس
كم يشبه القلب صدفة ضائعة في قاع بحر بلا قرار،
بحر عميق وسحيق، يبتلع كل شيء بلا صوت، بلا صدى،بحر يحمل في جوفه أسرار لا يجرؤ على كشفها إلا من غاص في الظلام.
تحتضن في أعماقها لؤلؤة ناعمة، صقلتها العواصف، وربّتها العتمة في سرّها المجهول.
هناك، في صمت البحر الذي لا يُقاس، تتعلم المحارة لغة الصبر،
وتعرف أن كل جرح وكل سقوط هو نقش خفي على صفحات الزمن،
أن كل موجة عاتية ليست سوى درس في الصبر والتحمل،
وأن كل لمسة من الماء البارد، كل حجر يلامسها، كل شعاع خافت من الضوء،
هو جزء من الرحلة الطويلة التي تصنع اللؤلؤ، تصنع القلب، تصنع الإنسان.
نمشي في الدروب كأننا نبحث عن شيء لا نعرفه،
نسير بخطوات واهية أحياناً، ونشعر بأننا محاصرون بين الأمل والخوف،
لكننا نحسّ بوجوده، كضوء بعيد يومض في أعماق الروح،
يومض لنا بصمت، كما لو كان يقول: "أنا هنا، رغم كل شيء".
ينادينا بصوت خافت، كأنشودة منسية تُسمع فقط لمن أصغى إلى صمت قلبه،
ويكتشف أن الرحلة كلها، بكل آلامها وأوجاعها، هي بحث عن هذه اللمحة الواهية من النور.
اللؤلؤ… لا يولد في الضوء الساطع، ولا ينمو بين الضحكات،
بل في الجرح، في الرمل الداخل إلى جسد المحارة،
في الألم الذي يثقل القلب، وفي خوفها من انكسار صمتها المقدس،
هو ثمرة الصبر، وعنوان القوة المولودة من الضعف،
وإشعاع خفي لا يراه إلا من يعرف أن النظر إلى الداخل أعمق من النظر إلى العالم،
ومن يعرف أن كل سقوط يحمل بذور نهضة جديدة،
وكل دمعة هي شظية نور تنتظر أن تتحول إلى جوهرة.
والأمل، ذلك الطيف الخفي وراء الضباب،
لا يُشترى بالمال، ولا يُهدى بالسهولة،
بل يُولد حين نغرق في أعماق أوجاعنا، حين نظن أننا انتهينا،
حين تنهار كل الأسوار من حولنا، ويظن العقل أن الليل سيطول إلى الأبد.
حينها، يلمع الأمل كنجمة بعيدة، غير مرئية إلا لمن تعلّم أن يرى في الظلام،
ويكتشف أن الانكسار هو بداية رؤية جديدة،
وأن الرحلة الحقيقية لا تبدأ إلا حين نعرف معنى الخسارة،
حين نتوقف عن الركض خلف ما نراه أمام أعيننا ونتجه إلى ما لا نراه إلا في القلب.
فيا من يمشي في هذه الأرض مثلي،
لا تحزن إن تناثر اللؤلؤ من يديك،
فكل سقوط مهما بدا خسارة، هو بداية لنهوض آخر،
وكل جرح مهما عمق، يحمل بدايات سرية لم تُكتب بعد،
فالروح، مثل المحارة، تصقل نفسها في صمت،
وتخرج في النهاية بلؤلؤة لا يعرف قيمتها إلا من حمل الجرح بنفسه.
الأمل… هو ما يبقى حين لا يبقى شيء،
هو الضوء الخافت في آخر النفق،
النفس الأخيرة التي تنبض حين يظن الجميع أن كل شيء قد انتهى،
الحب الخفي الذي يظل مختبئاً في صمتنا،
واللؤلؤ الذي يختبئ في أعماقنا، ينتظر لحظة الاكتشاف،
لحظة اللقاء مع الذات، مع الحياة، مع الحقيقة التي لم تُحك بعد.
والقلب… ذلك البحر الساكن والعاصف في آن،
هو المكان الذي يولد فيه الألم ويُولد فيه الأمل،
هو المحارة، وهو اللؤلؤ، وهو الرحلة كلها،
كل موجة فيه تحمل درساً، وكل موجة تنثر بذور الصبر،
وكل موجة مهما اشتدت، لا تستطيع أن تمحو النور الذي يولد في الداخل،
ولا الظلام الذي يعلّمنا كيف نحترم الضوء.
فلنمضِ، مهما ثقلت أقدامنا،
ولنحتضن الظلام كما نحتضن الضوء،
ففي الليل يُولد اللؤلؤ، وفي الألم يُولد الأمل،
وكل قلب ضائع تائه، مهما طال غربته،
يحمل في جوفه البحر كله، واللؤلؤ كله، والحياة كلها،
ويظل يبحث، ويظل يأمل، ويظل يصنع، ويظل يحب،
حتى لو بدا أن الكون قد نسيه، فهو لم ينس نفسه أبداً.
 
 

