دلال القرافلي | المغرب
كنت أعرف أنه لن يعود.
منذ اللحظة
التي أغلق فيها الباب خلفه، ببطء، كمن يختار النسيان على مراحل، شعرت أن كل شيء
داخلي بدأ يتلاشى. لم يكن هناك صوت للباب، فقط ارتجاف في الهواء، ارتجاف يشبه
الصمت بعد النحيب.
قال لي قبل
أن يخرج:
"أحتاج
إلى هواء لا يذكّرني بكِ."
لم أجب. لم
أبكِ.
أنا لا
أبكي حين يخونني الآخرون، فقط حين أخون نفسي.
مرّ
الأسبوع الأول كما تمرّ النوبات: ثقيلًا، حارًا، وداكنًا.
كنت أستيقظ
على صوته في رأسي، لا خارجه.
صوته وهو
يضحك، وهو يتثاءب، وهو يقول لي: "أنتِ تقلقين كثيرًا."
والأغرب من
ذلك أنني كنت أفتقد تفاصيل لا تليق بالافتقاد:
الطريقة
التي يترك بها الملعقة في فنجان القهوة،
الفتات على
الطاولة،
ورائحة
قدميه عند المساء.
في اليوم
العاشر، قررت أن أخرج.
ارتديت
فستانًا لم ألبسه منذ زمن. فستانًا بلون البحر، بقصّة مفتوحة عند الكتفين. وضعت
أحمر شفاهٍ لا يُناسب مزاجي. أردت أن أبدو غريبة على حزني.
ذهبت إلى
المقهى الذي كنا نرتاده. جلست في نفس الزاوية.
طلبت قهوتي.
ثم نظرت
حولي — لم يكن هناك وجهٌ يشبهه، ولا حتى وجهٌ يمكن أن يحلّ مكانه.
لكن
النادلة ابتسمت وقالت:
"كنت
أراكما هنا كثيرًا. لم تعودا معًا؟"
هززت رأسي.
قالت:
"بعض الناس لا يليق بهم الشتاء."
بدأت أكتب
له رسائل لم أرسلها.
في الدفتر
الأزرق الذي تركه في حقيبتي ذات مساء.
كتبت له عن
القطّ الذي جاء إلى الشرفة، ثم اختفى.
عن الزهرة
التي ذبلت بسرعة رغم أنني لم أنسَ سقيها.
عن الجملة
التي قالتها جارتي العجوز:
"الذين
يرحلون بصمت لا يرجعون، حتى لو عادوا."
كنت أكتب
بيدي، لا على هاتفي.
لأن الحزن
لا يُكتب بنصوص قابلة للحذف.
في اليوم
العشرين، جاءني إشعار على الهاتف:
"هل
تودين استرجاع الذكريات من هذا اليوم، قبل سنة؟"
فتحت
الإشعار.
كان فيديو.
أنا وهو
نضحك في شارع ضيّق، وهو يقول لي:
"إذا
ابتعدت عنكِ، اسحبيني من يدي، حتى لو قاومت."
ضحكتُ
آنذاك، وسحبته فعلًا.
أعدتُ
تشغيل الفيديو ثلاث مرات.
ثم أطفأت
الهاتف.
ثم كتبْت
تحته:
"سأدعك
تذهب هذه المرة. حتى لو صرخت."
في اليوم
الثلاثين، التقيت بشخصٍ جديد.
رجل هادئ،
لا يسأل كثيرًا، ولا يضحك بصوت عالٍ.
كان يقرأ
روايةً عن امرأة لا تحب البحر.
سألني إن
كنت أحب البحر.
قلت له:
"أحيانًا. حين يكون بلا موج."
قال لي:
"البحر لا يكون بلا موج."
فقلت:
"ولا الحب."
ابتسم. لا
بطريقة الذين يريدون البدء، بل كمن احترق سابقًا.
قلت في
نفسي: هذا رجل لن يطلب هواءً لا أكون فيه.
في اليوم
الأربعين، عدت إلى غرفتي القديمة.
نظرت في
المرآة طويلًا.
ثم كتبت
آخر رسالة في الدفتر الأزرق:
"لقد
تعلمتُ أخيرًا ألا أستدرج الذين لا يعودون."
أغلقت
الدفتر.
ووضعت
فنجانًا جديدًا على الطاولة، لا يشبه فنجانه.
ورائحة
وردٍ في الغرفة، لا تُشبه رائحة قدميه.