معز ماني | تونس
في زمن يعلو فيه ضجيج التكرار،
ويكافأ فيه التقليد على حساب التجديد، يظل الإبداع شعلة نادرة، لا تشتعل إلا في عقول
تمردت على العادي، وقلوب تاقت لاختراق المألوف، وعزائم لا تخشى العزلة.
فالإبداع — وما أدراك ما الإبداع
— هو أن تقف وحيدًا في وجه التيار، لا لتعارض من أجل المعارضة، بل لتبني فكرة تغيّر،
وتُحدث الفرق، وترسم ملامح مستقبل لم يوجد بعد.
الإبداع ليس مجرد ترف فكري،
ولا نزوة لحظية تأتي وتزول، بل هو شجاعة فكرية تُراجع المسلّمات، وتميّز بين الثابت
والمتحرك؛ فالثوابت القطعية التي جاء بها الوحي لا يمكن أن تكون ميدانًا للجدل، لأنها
تشكل إطار الهداية الإلهية. أما العادات والتقاليد، فليست سوى منتجات زمنية، تتغير
بتغير الظروف والسياقات، وقد تكون أحيانًا عبئًا على مسيرة التقدم حين تُقدَّس بلا
تمحيص.
بين الخرافة والحرية
ليس من السهل أن تكون مبدعًا
في مجتمع مستقر ظاهريًا، لكنه ساكن داخليًا؛ مجتمع لا يزال يقدّس الخرافة، ويخشى السؤال،
ويستبدل الفهم بالتلقين. هنا، يصبح الإبداع فعل مقاومة، ومشروع حرية، وخطوة نحو المجهول.
قد تُتَّهَم بالكفر، وتُرمى
بالزندقة، لأنك ببساطة قلت: "لماذا؟"، أو تجرأت أن تقول: "وماذا لو؟".
لكن الحقيقة أن كل فكرة جديدة مخيفة، لأنها تزعزع الثابت، وتقلق الراحة الذهنية، وتجبر
العقول على العمل.
وما من تغيير دون ثمن؛ فالثمن
قد يكون عزلة، أو سخرية، أو رفضًا قاطعًا. غير أن التاريخ لا يذكر أولئك الذين ساروا
مع القطيع، بل خلد أسماء من تجرأوا على الحلم، وأصروا على أن يكونوا المختلفين.
الإبداع والابتكار: لقاء الفكرة بالفعل
من المهم أن نفرّق بين الإبداع
والابتكار؛ فالإبداع هو الشرارة الأولى، ومضة الفكرة الخلّاقة التي لم يسبق إليها أحد.
هو أن ترى ما لا يُرى، وتفكر خارج المألوف.
أما الابتكار، فهو الولادة
العملية لتلك الفكرة؛ هو التنفيذ، والتحويل، والتجسيد الواقعي للمستحيل. فالمبدع يحلم،
والمبتكر يترجم الحلم إلى شيء ملموس، نافع، وقابل للتكرار.
فكّر في المخترعين، في المبرمجين،
في الفنانين، في المفكرين؛ كل ابتكارهم كان يومًا ما فكرة مجرّدة، سخر منها الناس،
أو لم يفهموها. لكنها — بالإصرار والجرأة والجهد — تحولت إلى واقع غيّر حياة البشرية.
مجتمع بلا إبداع: حياة بلا أفق
المجتمع الذي يخاف من التجديد،
هو مجتمع يعيش في قبر مفتوح؛ يكرر نفسه، يستهلك نفسه، ويعيد تدوير الفشل كأنه إنجاز.
لا يستطيع أن ينافس، ولا أن يتعلم، ولا أن ينجو.
الإبداع لا يزهر في بيئة تقدّس
الصمت، ولا في ثقافة تستهجن السؤال. إنه يولد في مناخ الحرية، وينمو على أرض تحتفي
بالاختلاف، وتفهم أن الخطأ طريق... لا نهاية.
المجتمعات التي تصنع التاريخ
ليست تلك التي تمتلك القوة، بل التي تخلقها. والإبداع هو أول مظهر من مظاهر هذه القوة.
الفشل ليس نقيضًا للنجاح، بل طريقًا إليه
جزء من الابتكار هو أن تُخفق،
أن تُجرِّب، أن تخسر، أن تعيد الكرّة، أن تتعلم.
لا مبدع لم يمرّ بلحظات تشكيك،
ولا مبتكر لم يتعثر عشرات المرات. لكن المجتمعات التي تعاقب الخطأ، تقتل روادها في
المهد. فلنُعدّ صياغة علاقتنا بالفشل، ليس كوصمة، بل كخطوة أولى على درب النجاح.
صناعة العقل المبدع: مسؤولية تبدأ من الطفولة
الإبداع لا يُورث، بل يُزرع.
والمدرسة التي تلقّن الأطفال ماذا يفكرون، لا كيف يفكرون، تخنق فيهم روح الابتكار.
والمطلوب هو تعليمهم الشك البنّاء، والتأمل، والربط بين الأشياء، والجرأة على السؤال.
علينا أن نخرج الطفل من قفص
"الإجابة النموذجية"، ونتركه يُجرّب، يسأل، يتعثر، ثم يكتشف بنفسه عالمًا
مليئًا بالإمكانات.
الإبداع في الإسلام: أصالة لا دخيلة
قد يتوهّم البعض أن الإبداع
والتجديد دخيلان على ثقافتنا العربية أو الإسلامية، وأن المحافظة تتعارض مع التطور.
لكن الحقيقة أن الإسلام نفسه بدأ بثورة فكرية هائلة، كسرت أصنام العقول قبل أن تكسر
أصنام الحجارة.
النبي محمد ﷺ جاء بفكر جديد، وواجه مقاومة عنيفة من مجتمعه، لا لأنه أخطأ، بل لأنه غيّر.
وسار الصحابة من بعده على درب الإبداع في السياسة والإدارة والعلوم. فما أعظم أن نستعيد
هذه الروح، لا في الشكل، بل في الجوهر.
المجد للفكرة... التي لم تولد بعد
في النهاية، يبقى الفرق بين
أمة تنهض وأخرى تتخلف، هو ما تصنعه كل واحدة منهما من أفكار. فالفكرة ليست مجرد كلمات،
بل طاقة قادرة على تحريك العالم.
الإبداع ليس صفة نادرة، بل
قدرة إنسانية فطرية. لكن المجتمع هو من يحييها أو يُخمِدها، والمبتكرون هم أولئك الذين
لم يرضوا أن يكونوا نُسَخًا، بل اختاروا أن يكونوا بداية لشيء جديد.
فلنكن من أولئك الذين يحملون
شعلة التجديد، ويزرعون بذور الفكرة، ويروونها بعمل جاد، حتى تنبت في أرض الواقع. فالعالم
لا يتغير بالكثرة، بل بالقلة التي تملك الشجاعة أن تقول: "يمكننا أن نرى العالم
بشكل مختلف".
وكل فكرة عظيمة... تبدأ من
شخص واحد.