منى قجيع | المغرب
عدتُ يا سادتي، ولستُ أعرف أية علاقة
جديدة أصبحت لي مع الحروف. أظن أن الأشياء صارت تختصر بالكامل داخل كياني، وأن التعبير
عن كل الذي يحدث، سواء داخل مخيلتي أو خارجها، أصبح مجرد مجموعة من الأفعال البسيطة
جدا، والتي يمكن كتابتها من هنا فصاعدا في جمل قصيرة جدا مكونة من كلمتين أو ثلاث:
قمتُ مثلا، أو استلقيتُ على السرير، طهوتُ الأكل، فتحتُ الحاسوب. تساءلتُ إن كنتُ أنا
ذاتي أم كنتُ آخرها، فكرتُ في الموت، خرجتُ في إجازة مرضية، اشتقتُ، تعثرتُ في المدرج،
قمتُ بنزهة على شاطئ البحر.
يبدو الشاطئ مريحا جدا عند اقتراب فصل
الشتاء. ويبدو أن البحر في هذا الفصل يستطيع أن يتعرف أخيرا على أصدقائه، بعد أن يختبئ
الآخرون في منازلهم بحثا عن الدفء. السمكة الكبيرة تجعلني أفكر دائما أن هناك سماء
تحت أعماق البحر، وأن هناك مدائن وقرى وكائنات خرافية تعيش تحت تلك السماء. في المرات
التي أجد فيها صعوبة في التعرف على ذاتي، أفكر مباشرة في أنني أنا هو الكائن الخرافي.
أقصد بـ"أنا" الإنسان، وليس ذاتي المفردة: الرخ، العنقاء، الحصان ذو الأجنحة،
السيكلون أو المارد ذو العين الواحدة، أو الأيائل السوداء التي تجر خلفها عربات تبدأ
بسحبها على ثلج ناصع البياض، كي تنتهي بالطيران بها فوق الغيوم. ماذا يكون الحد الفاصل
بين غرابة هذه الكائنات وأسطوريتها وبين غرابتي أنا الإنسان وأسطوريتي؟ لا شيء تقريبا،
وربما أنا أصلا أكثر غرابة من كل هذه الكائنات جميعها... يكفي أن أفكر في أشياء بسيطة
جدا حتى أحس مباشرة بالذعر من نفسي. كأن يكون لاصطدام الموج بالحجارة مرادف داخل ذهني
يُسمى صوتا، أو كأن تنعكس صورة كل هذا العالم الخارجي داخل شبكيتي، فيُغرقني بالكامل،
حتى أنني أصبح مغمورا به من كل الجهات، دون أن أتمكن حتى من رؤية ذاتي...
أن تحس، يعني أنك خرجت من ذاتك وأصبحت
العالم. أن تخرج من ذاتك، يعني أنك أصبحت عاجزا عن التعرف عليها. أن تصبح عاجزا، يعني
أن تفقد السيطرة. أن تفقد السيطرة، يعني الهلع. الهلع يعني أقصى درجات الدهشة، والدهشة
تعني أنه ليس هناك فرق بينك وبين العنقاء، ولا بين الضفدعة وشجرة نابتة في غيمة، ولا
بين الشجرة النابتة في الغيمة والطارتيغراد.
إن الإنسان كائن مفزع للغاية، وغريب
للغاية، وهو أكثر أسطورية من طائر الرخ، أو الغوريلا العملاقة التي لا يتعدى حجم الإنسان
بكامله مجرد إصبع في كفها.
البحر صديقي، رغم أنه مفزع. أنا أتماهى
معه بشكل ما. ورغم أن عملية التماهي تلك مفزعة أكثر من البحر في حد ذاته، لأنها تجعلني
أتخلى عن ذاتي وأصبح هو، إلا أنها مطمئنة بسبب شساعتها. لا وجود لجدران في البحر. الشواطئ
ذاتها ليست جدران البحر، بل نوافذه المتحركة بمدها وجزرها. البحر، إنه بشكل ما، لا
متناهٍ. وأن يفقد الواحد منا هويته دون أن يحس أن فقدان هويته ذاك سوف يصطدم بجدار
يعيدها إليه في لمح البصر ـ كي يشعر عندئذ بصدمة جديدة ـ يبدو شيئا مطمئنا.
اللقاء مع البحر نوع من التسليم في هويتك،
دون الخوف من عودتها بشكل مفاجئ وصادم يجعلك تتشظى أكثر من البداية بقوة مفعول الارتطام.
إنه نوع من التصوف، إن أردتم تسميته هكذا، رغم أن الملابسات الدينية لهذه الكلمة تجعلني
دائما متوجسا منها.
ربما أنا أيضا أتخلص من أفكاري حين ألتقي
بالبحر عند اقتراب الشتاء. من يدري؟ أو أنني أتخلص من كل الأفكار التي احتلتني، حتى
أنها أصبحت وكأنها أنا، وهو السبب الرئيسي الذي يجعلني أحس بالاطمئنان في حضرة البحر
في حقيقة الأمر.
ثمة شيء في دواخلي، أو ربما هو في دواخل
البحر، يقول لي إن هذا الكم الهائل من المعلومات والمعارف والرموز والقوانين والأعراف
والأفكار ليست أنا، بل هي ـ وبكل ما تحمله هذه الكلمة من بساطة مهولة ومفجعة ـ: النظام.
نعم، النظام البشري الذي احتلنا نحن الأفراد على مدى كل هذه الآلاف من الأعوام، حتى
أننا أصبحنا نخلط بينه وبين أنفسنا، ونخلط بين تخلينا عن ذواتنا وبين استعادتنا لها،
ونخلط بين الاطمئنان والهلع.
كان رجل، بشعر أسود، بجسم بدين بعض الشيء،
ببشرة سمراء، وكدر في الملامح لا يكاد يُرى... بخطواتي البطيئة حينا والمتسارعة حينا
آخر على ضفة الشاطئ، خاطبني فجأة بصوت متقطع قائلا:
لا تخف، أنا لستُ مجنونا. أنا منزعج
فقط، ولهذا السبب أنا أكلم نفسي...
تفطنتُ بشيء من الدهشة إلى أن أمواج
البحر ليست هي فقط من بإمكانها أن تدخل دماغي، ويصبح صوتها وهي تتهاوى على الشاطئ وكأنه
صوت يخترعه دماغي من تلقاء ذاته باعتباري أنا هو البحر، بل ثمة أيضا أصوات أخرى تصل
مباشرة داخل دماغي، حتى يبدو مرة أخرى وكأنه هو من اخترعها، وأن هذه الأصوات هي كلمات
لها معنى بإمكاني إدراكه على الفور، وكأنني أنا هي، هذا الرجل أيضا، ولست البحر فحسب...
لماذا يعتذر هذا الرجل رغم أنني لم أسمعه
أصلا، ولم أنتبه إلى وجوده سوى بصريا، إلى درجة أنني لم أكن أراه تقريبا، أو لأقل إنني
لم أكن أدرك أنني أراه، بل إن بصري من كان يُبصره من تلقاء نفسه دون أن أعي أنا أصلا
وجوده... بدا لي الأمر مدهشا وغريبا، لكنني أجبته بشكل سريع وأوتوماتيكي تقريبا:
لا عليك يا سيدي، أنا أيضا أكلم نفسي
في كل مكان، لا تخجل من نفسك، حاول فقط أن تكون بخير.
خلف هذا الرجل ورائي، وحين أصبح إدراكي
يعيها، كانت خطواتي قد ابتعدت عنه بشكل يجعل عودتي نحوه ستبدو مريبة أو سخيفة على أقل
تقدير...
كنتُ أريد أن أقول له: ما رأيك أن نمشي
جنبا إلى جنب، وأن يكلم كل واحد منا نفسه في حضرة الآخر، وهكذا تكف عن الشعور بالخجل
من نفسك ومن أي عابر سبيل، لأنك ستبدو وكأنك تكلمني؟
ربما كنتُ أريد أن أقول له أيضا: أن
أسمعك يعني أن صوتك أصبح داخل جمجمتي، وأنك أنت نفسك داخل جمجمتي، أي أنك أنا بشكل
من الأشكال... كلنا نحن والآخرون، يا عزيزي، كلنا أيضا سوانا ولا أحد، فلا شيء يدعو
للخجل أو الفزع يا عزيزي... هل حقا أنه لم يكن ليشعر بالفزع لو أنني قلتُ له ذلك؟
لا أعرف في الحقيقة... هناك منطقة غريبة
قد وصلت إليها ذاتي في الآونة الأخيرة... ويبدو أنه من السخف أن أتحدث عن التاريخ البشري
القريب في هذين القرنين اللذين يُسميان القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين. من السخف
أن أقول مثلا إننا في هذه الحقبة الزمنية الراهنة قد وصلنا إلى درجة غريبة من العبث،
مثلما حصل منذ ثمانين عاما تقريبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وإن الإحساس
بالضياع والعقم بعد ثورات فاشلة يشبه إلى حد كبير الإحساس بالانهيار بعد موت الملايين
من الناس بأشد الطرق تعذيبا إثر حرب مجنونة بالكامل...
لا أحد منا يستطيع أن يتعرف على نفسه،
أن يضعها داخل تسلسل زمني يمكن أن يستسيغه إدراكه، أو أن يجمع حزمة من المعاني التي
سوف يخيطها الواحدة بالأخرى، حتى يتحصل على الجدوى... لا أحد بإمكانه أن يحلم مثل السابق،
حين كان المستقبل غامضا بالدرجة الكافية التي بإمكانها حماية الحلم من التلف...
من السخف قول كل ذلك، لأن التاريخ البشري
أبعد كثيرا من هذه السنوات القليلة التي هي مائة وعشرون عاما، وإن العبث الذي يلي ثورة
فاشلة أو حربا عالمية طاحنة قد لا يساوي شيئا أمام سمكة تقرر أن تخرج من البحر كي تمشي
على قدميها وتصبح فيما بعد إنسانا... وأن هذا الإنسان، بعد كل هذه الآلاف من الأعوام،
يقف أمام البحر في فصل الشتاء مثل سمكة وفية، معتقدا أنه هو ذات البحر...
عدتُ يا سادتي، وليس هذا ما أردت أن
أخبركم به في الحقيقة... جملة بسيطة فقط أردتُ قولها، غير أنني خفتُ فحسب من أن أكون
قد نسيتُ كيف أكتب. جملة وحيدة، أو جملتان بسيطتان كملمس الماء:
في هذه اللحظة بالذات لا وجود للمستقبل.
نحن لا نقف على أية أرض. إن الإنسانية قد أوغلت في شيخوختها، وكي يستطيع الواحد منا
أن يحلم، عليه أن يعود إلى الوراء، إلى وراء الوراء، إلى البداية، إلى تلك اللحظة التي
انفصل فيها كوكب الأرض عن الوحدة الأولى، إلى تلك اللحظة بالذات حين لم يتشكل بعد أي
نظام للأشياء... أن تحلم يعني أن تتحرر من مؤسسة هذا الكائن المعتوه الذي يُدعى إنسانا.
أن تبدأ كل شيء منذ البداية.
أن تحلم يعني أن تكون جمجمتك عذراء،
ولو بالرتق.
أن تحلم يعني أن تلد نفسك خارج التاريخ.