📁 تدوينات جديدة

ماذا فعل شوبنهاور؟ | بقلم: منى قجيع

ماذا فعل شوبنهاور؟  | بقلم: منى قجيع
 منى قجيع | المغرب 

لماذا نتوقف كثيرا عند غرف ضئيلة؟ شاحبة الجدران؟ متداعية الأسقف؟ ثقيلة الأنفاس؟ يصعب نفاذ وهج الشمس بين شقوقها الكلسية المكسوة بغبار أوقات لا تمضي؟ ولا تتسع؟ ولا تنتشر حول قماش العمر؟

نتكوم تحت خشب أسرة بثلاثة أرجل وبلا أفرشة. نرفض تجميع مسامير أجسادنا المتساقطة بصرير عنيف يخترق الأسماع، كنذير بقدوم ملك الموت لينظف وسخ خطايا ماض ظلت تعذب رقادنا بذنوب لم تقترفها أصابعنا الجبانة. تسرقنا مسافات اليوم، فينجلي الصباح ويهبط العصر بثقل أقدامه الباردة على بطون المدن الضائعة بين شوارع الذاكرة... من أين يأتي هذا الشعور بعذابات حزن لا متناه يحتجزنا داخل بلورة ضبابية؟ فيبدو المساء بعيدا، والليل داكنا مقفرا من حركات الرجاء، كهيكل مقدس تلفظ عند عتبته أرواح الأحياء المتعبة من اجترار إبر تنسكب على عيونها وتقص الأشفار الدامية. لماذا لا ننفظ أغطية العجز فنحرر أيادينا من قفازات الحذر، ونخلع خواتم العفة والتقاليد الغليظة؟ لماذا لا نقفز بلا تثاقل نتمطى كمجانين لا يفقهون خطوات المنطق، فنتناسى ما لقنونا إياه من حركات وأقاويل عن حسن التهذيب والإصغاء والتعقل؟ شباك وحيد مقفل يفصلنا عن غيوم الألوان الزرقاء المتلألئة، لنحلق بأجنحتنا بعيدا عن خيبات ما فتئت تحتجزنا بحبوب تخدير شهية لنقنع بعدمية المحاولة والتكرار، فالتخطي ليس صعبا كما أخبرونا، والجراح تفقد حرارتها وقطب فتحاتها بخيوط الزمن، فلنقفز فوق جسر الماضي لنكتشف ما يخبئه لنا القدر من مفاجآت وألوان وشخوص جديدة، سنلمس شعاع الحلم ونكبر فقط عندما نسمح لورودنا أن تغتسل بمياه القمر وحمامات الشمس الذهبية، فنشكل بأسلحة أناملنا الفتاكة واقعا يرضينا ويليق بتضحياتنا الجسام، واقع يمجد تواريخ أوطاننا ويلحقها بركب التطور والرقي، واقع يولي التجارب السابقة حقها دون أن يلفها بغلاف التقديس.

أعرف حقّا كيف يفكّر النّاس أو يشعرون أو يقرّرون...

أعرف فقط أنّني أنكمش في فراشي حين أكتئب وأحسّ أنّ جذوعا لا مرئيّة تلتفّ حول جسدي محاولة أن تسحبه تحت التّراب، أعرف أيضا أنّني أصبح أكثر نشاطا حين أحسّ بضوء خافت ينير روحي، أعرف أنّني أبكي بالصّوت حين أتيّقن للمرة المليون من وحدتي العضويّة، من أنّني هنا داخل ذاتي، أو أنّ ذاتي هي التي داخلي، وأنّ الجميع ينصرفون دائما في نهاية المطاف لأبقى وجها لوجه معها، أحمل وزرها أو هي من تحمل وزري، وأكون متأكّدا أنّه لا مجال أبدا من أن آخذ عطلة وجوديّة إلّا بالموت. أعرف أيضا أنّني أحسّ بالنّشوة حين يطربني شيء ما في الخارج، أعرف أنّني أضحك بالصّوت العالي حين أكون عرضة لمفارقة أو حين أكون شاهدا على ذلك الشّيء الغريب الذّي اسمه موقف فكاهي والذّي -من دون شكّ- لا يجعل الجميع يضحكون بالتّساوي. أعرف أيضا أنّ مخيّلتي تصبح نشطة جدّا حين أكون عاشقة للإبداع. أعرف أيضا أنّني أخاف، أخاف من فقدان الرّغبة أو فقدان الجدوى. أعرف أنّني أصبح شجاعة حين أكون مغمورة بالحياة.

أمّا أن أفكّر، فأعرف أيضا ما معنى ذلك... أن أفكّر يعني تحديدا أن أدخل مباشرة في دوّامة: لا يمكن أن أفكّر في الأشياء ويكون كلّ جزء منها على حدة. أن أفكّر يعني أن أجد تفسيرا يربط بين الكلمة والهرمون، بين الصّورة ونبضة القلب، بين الفرد والجماعة، بين التاريخ واللحظة الرّاهنة، بين العلم والأسطورة، بين المنطق والعرضيّة، بين الفيزياء وأثر الفراشة. أن أتساءل مثلا: ما معنى أن أكون أنا ذاتي بينما عدد البكتيريا الذي يوجد داخل أمعائي يفوق بمئات المرّات العدد الجمليّ لخلايا جسدي بطمّها وطميمها؟  أن أفكّر يعني ألّا أترك سفينتي تسير بزهو ساذج على سطح الماء، بل أن أفتح فيها ثقوبا تجعلها تثقل أكثر فأكثر إلى أن تهبط داخل المحيط كي تعرف ماذا يوجد في أعماقه.

التّفكير، إنّه لعنتي الأبديّة، غربتي، وغرابتي وغوايتي، جوعي، عطشي السرمديّ إلى شيء مبهم. إنّه هذا النّداء المجهول الذّي يريد أن يردم هذا التقعّر في كينونتي، الذي يريد أن يملأ هذا النّقصان الرّهيب داخل روحي، دون أن يفلح أبدا في ذلك. وهذا طبعا لا يحدث معي عمدا، بل بطريقة عفويّة جدّا. لكن كيف أتصرّف؟ كيف أقرّر؟ هذا هو الشيء الذي لا أعرفه بالتّحديد.

أمّا حين أكون في ورطة، فأن أتصرّف يعني شيئا غريبا جدّا. إنّه يعني أن أقوم بشيء ما وفي أسرع وقت ممكن، وفق الذي أملكه في تلك اللحظة بالذّات من إمكانيّات ذهنيّة ونفسيّة وعضليّة. ليس هذا فقط، بل أيضا وفق الذّي يوفّره لي المحيط في ذلك المكان بالذّات وفي تلك اللحظة الزمنية بعينها من أدوات أو ما توفّره لي الصّدفة من حظوظ...

أن أتصرّف هي الورطة الوجوديّة الأكثر زعزعة على الإطلاق. فالتّفكير مثلا، مهما بلغت درجة التمزّق فيه، مهما كان عويصا ومدوّخا وجبّارا، يظلّ في نهاية الأمر حالة مريحة. حتّى وإن أدّى بك التّفكير نفسه إلى الموت، يظلّ حالة مريحة، تموت فيها بشكل عفويّ...

الشّعور أيضا، مهما كان غامضا، أو كثيفا أو متقلّبا، أو غائرا، يظلّ في نهاية المطاف هو ذاته حالة مريحة، حالة سلبيّة تقريبا. الأخطر من ذلك أنّه يكون حالة ذاتيّة محضة، حتّى وإن تغيّرت قسمات وجهك معبّرة عمّا يخالجك في الدّاخل، فأنت تظلّ من الدّاخل تلك البحيرة المليئة بالأسرار، والتي لا يعرف عنها الشيء الكثير عداك.

أمر مضحك أن تتصرّف. أظنّ أصلا أنّه أمر عدميّ بالكامل. أن تفعل شيئا ما يعني أصلا أنّك قتلته باعتباره احتمالا. أنّك أعدمته أو قضيت عليه. بل الأكثر من ذلك، أن تتصرّف يعني أن تتجاهل عددا لا نهائيّا من الأشياء والمعطيات والحالات وربّما المشاكل أصلا من أجل أن تعبر من ضفّة نحو أخرى. يبدو الأمر نبيلا جدّا من الخارج. إنّك تتحرّك، تتقدّم، تتطوّر، تتعالى وتتجاوز. لكنّه يبدو مخيفا من الدّاخل وأحيانا بشعا. خاصّة حين يكون التصرّف هذا ليس امتدادا لأفكارك الأكثر وضوحا، أو لمشاعرك الأكثر صفاء، أو لا يكون أصلا تلبية لنداء متوهّج داخلك، بل فقط تصرّفا من أجل النّجاة، أو من أجل أن ترفع ساقيك من الوحل دون أن تعرف من أين جاء ذاك الوحل أساسا، أو أن تهرب لأنّك وجدت نفسك في مكان ووضعيّة لم تكن تريد أبدا أن تجد نفسك فيهما.

أمّا أن تقرّر، فأنا لا أفهم ذلك أبدا. إنّه أشبه بتلك المطرقة العملاقة المدويّة وهي تسقط على الحديد. لا أتذكّر أنّني قمت بقرارات خطيرة في حياتي. لم تكن هناك مطارق بل مياه سائلة في النهر. أنا لا أتذكّر حتّى القرارات الصّغيرة التي لا أكون أعي أصلا أنّها قرارات.

الرّغبة واليقين. إنّهما الشّيئان الوحيدان اللذّان يدفعانني حتّى وإن كان الذي قمت به أمرا جللا وخطيرا، فهو لا يكون سوى حدث عفويّ ومنساب داخل مجرى حياتي. فإن غابا، غابت معهما الجدوى، غاب الحماس وسرى البياض ببطء على كامل نقطة في العالم.

هذا الخريف ثقيل جدا يتربع على صدورنا الباردة كقدر ملك الموت الساخن، فيذيب جليد الأحزان القديمة... يجعلنا نتلوى ونتقلب فوق زفرات هواجسنا دون دموع. يتعفن كحل الضجر تحت جفني الوطن الشاحبين فيضفي على اللوحة الخشبية المرشوقة بحذر تحت ظهر الكرة الأرضية، قتامة شديدة تهيج روائح المنية في خياشيم البلد الصغير المتكوم حول جثثه الباهتة، يبكي ورودها المتساقطة بصمت، ويبكي زعقات الجوع وأنات الخوف المتناثرة مع أوراق الخريف... أين نذهب؟ ولا مفر من براكين عينيك الفائرة إلا على أرائك حضنك الأخضر الحنون؟ أين نسير؟ أين ننوء بأحمال أكتافنا دون أن تلاحقنا خناجر ألسنة الذنب لتنغرس في شرايين رقابنا؟ أين يمكن أن يطيب لنا نعاس الليل دون مخاوف، تدب إلى أجسادنا كصاعقة كهرباء زنزانة التعذيب؟ هل لنا بساعات ضئيلة نهدهد فيها أطفالنا فوق صدورنا قبل أن يبتلعهم شبح الموت؟  ماذا لو ساقتنا أقداح الحب المسكرة، وطوح بنا نبيذ العشق بعيدا، حيث ترقص العصافير وتترنم حذو بيوت الغيوم وعرائس السماء الفاتنات بلا حذر ولا فزع؟ بلا معرفة سابقة بأننا سنستفيق ونتلقى الصفعات على وجوهنا الملطخة بتراب الندم؟

حقا لا أعرف كيف يفكّر النّاس ولا كيف يتصرّفون أو يأخذون قرارات مهمّة في حياتهم... لا أعرف أبدا كيف يحصل ذلك...

كان شوبنهاور يسأل هذا السّؤال الفلكي: ماذا يجب عليّ أن أفعل؟

لكن ماذا فعل شوبنهاور؟

ماذا فعل سوى أنّه فكّر وكتب ثمّ نام حين سرى الخدر في كامل خلايا جسده!

تعليقات