الفصل الأول: همس المطر
كانت المدينة غارقة في صمت ثقيل، لا يقطعه سوى صوت المطر وهو يرتطم بالأرصفة
والنوافذ المغلقة. الشوارع بدت خالية، كأن المطر غسلها من المارة ومن ضجيج الحياة.
مصابيح الشوارع المتعبة كانت تومض بضعف، تلقي ضوءًا شاحبًا على الأزقة الضيقة التي
تشبه متاهات الذكريات.
في ذلك الليل البارد، كان سامي يسير وحيدًا، يدفن يديه في جيوب معطفه الطويل،
غير مكترث بالمطر الذي تسلل إلى ملابسه. لطالما أحب المطر، لكنه الآن لم يعد يشعر نحوه
بشيء. كأن المشاعر التي كان يحملها للمطر ماتت منذ زمن. منذ سنوات، وهو يعيش في دائرة
مغلقة من الأيام المتشابهة، يخرج من عمله، يجلس في المقهى ذاته، يراقب الغرباء دون
أن يجرؤ على كسر عزلته، ثم يعود إلى شقته ليقضي الليل وحيدًا مع أفكاره.
في جيبه الداخلي، كان يحتفظ بدفتر أسود صغير، يدوّن فيه ملاحظات لا يقرأها
أحد. لم يكن كاتبًا، لكنه كان يخشى أن تمر الأيام دون أن تترك أثرًا، دون أن يتذكره
أحد. لكنه هذه الليلة لم يكتب شيئًا. المطر وحده كان كافيًا ليحفر مشاعره على ذاكرته.
عند زاوية الشارع، لمح جسدًا صغيرًا يلتصق بجدار متجر مغلق. فتاة صغيرة، بالكاد
تبلغ العاشرة، وقفت هناك ترتجف بردًا، تحتضن بين يديها علبًا صغيرة من المناديل الورقية،
فيما التصق ثوبها المبلل بجسدها النحيل. كانت عيناها واسعتين، تلمعان ببريق غريب، خليط
من البراءة والخوف، كأنها اعتادت أن تُهمل، أن تكون غير مرئية.
توقف سامي، شعر بانقباض في صدره، لكنه لم يتجاهلها كما يفعل الجميع. اقترب
منها قليلًا، ثم سأل بصوت هادئ:
- ماذا تفعلين هنا وحدك؟
رفعت رأسها ببطء، وكأنها لم تصدق أن أحدًا قد خاطبها. أجابت بصوت خافت:
- كنت أبيع المناديل، لكن المطر جعل الجميع يرحلون.
نظر سامي إلى العلب الصغيرة التي تحتضنها وكأنها أثمن ما تملك، ثم إلى ثوبها
الذي التصق بجسدها الهزيل. تردد للحظة، ثم نزع معطفه وألقاه فوق كتفيها الصغيرتين.
- المطر جميل، لكنه قاسٍ أحيانًا. عليكِ العودة إلى المنزل.
شعر حينها أن دفء الإنسانية أقوى من برد الشتاء، وأن المطر ليس فقط ماءً يسقط
من السماء، بل قد يكون أيضًا رسالة رحمة تلامس القلوب
قبضت الطفلة على المعطف بإحكام، وكأنها تخشى أن يُنتزع منها كما انتُزع منها
الكثير. نظرت إليه نظرة طويلة، ثم قالت بصوت خافت:
- ليس لديّ منزل.
تردد سامي، كأنه لم يعرف ماذا يقول. للحظة، لمعت في عينيه صورة قديمة، ذكرى
بعيدة لطفل صغير، يقف وحيدًا تحت المطر، ينتظر شخصًا لن يأتي أبدًا.
لكنه لم يقل شيئًا. فقط تابع الطفلة بنظره وهي تهرول بعيدًا، تختفي في أحد
الأزقة المظلمة. ظل واقفًا للحظات، يشعر بشيء يتحرك داخله، شيء لم يشعر به منذ زمن
طويل.
لكن المطر لا يغسل الذكريات...
الفصل الثاني: البحث عن ظل
في صباح اليوم التالي، استيقظ سامي على غير عادته مبكرًا. كان المطر قد توقف،
لكن السماء بقيت رمادية كأنها لم تحسم أمرها بعد. نهض من سريره بتثاقل، شعر ببرودة
الصباح تتسلل إلى عظامه. للحظة، فكر في العودة للنوم، لكنه وجد نفسه يحدق في معطفه
المعلق بجانب الباب... لا، لم يكن هناك.
حينها تذكر الطفلة. تذكر عينيها اللتين لم تفارقا ذهنه طوال الليل. لم يكن
يفهم لماذا علقت في ذاكرته بهذه السرعة، لكنه أدرك أنه لا يستطيع المضي في يومه كأن
شيئًا لم يحدث.
ارتدى معطفًا آخر، خرج متجهًا إلى الزقاق الذي التقاها فيه. كان المكان كما
هو، المتجر المغلق، الأرصفة المبللة، حتى المصابيح التي تومض كأنها على وشك الاحتضار.
لكن الطفلة لم تكن هناك.
وقف سامي لبرهة، يبحث بعينيه بين المارة القلائل، قبل أن يتوجه إلى البقالة
المجاورة. دخل وسأل الرجل المسن خلف الطاولة:
- الفتاة الصغيرة التي تبيع المناديل هنا، هل تعرف أين تسكن؟
رفع البائع رأسه، رمقه بنظرة قصيرة، ثم هز كتفيه بلا مبالاة:
- لا أحد يعرف عنها شيئًا. تأتي كل مساء، تبيع المناديل، ثم تختفي. بعض الزبائن
قالوا إنهم رأوها تنام أحيانًا في محطة الحافلات.
شعر سامي بغصة في حلقه. محطة الحافلات؟ كيف يمكن لطفلة أن تواجه هذا البرد
وحدها؟ غادر البقالة وهو يشعر بقلق لم يفهمه تمامًا. كان بإمكانه العودة إلى روتينه
اليومي، لكنه لم يفعل. وجد نفسه يسير بلا تفكير نحو المحطة القريبة.
الفصل الثالث: لقاء تحت الأضواء الخافتة
حين وصل إلى المحطة، كانت خالية تقريبًا، إلا من بضعة مسافرين متعبين، وأضواء
خافتة تلقي ظلالًا باهتة على المقاعد المعدنية الباردة. بحث بعينيه في زوايا المكان،
حتى لمحها.
كانت هناك، متكومة في ركن بعيد، تلتف بمعطفه القديم، وكأنه أصبح حصنها الوحيد
ضد هذا العالم القاسي.
تقدم نحوها ببطء، لم يرغب في إيقاظها إن كانت نائمة، لكنه لمح عينيها المفتوحتين
تحدقان في الفراغ. حين شعرت بوجوده، لم تبدُ متفاجئة. فقط حدقت فيه بصمت، وكأنها كانت
تتوقع عودته.
جلس على مقعد قريب، ثم قال بصوت هادئ:
- تأخرتِ عن المنزل الليلة.
لم تجب مباشرة. نظرت إليه طويلًا، ثم قالت بصوت خافت، لكنه ثابت:
- ليس لديّ منزل.
شعر سامي بقلبه ينكمش. لم يكن بحاجة إلى سماع التفاصيل. كان يعرف هذا الشعور
جيدًا، الشعور بأنك بلا مكان، بلا أحد.
بعد لحظة صمت، قال:
- هل أنتِ جائعة؟
ترددت للحظة، ثم هزت رأسها. لم يكن بحاجة إلى المزيد من الكلمات. نهض وأشار
إليها برأسه:
- تعالي، سأشتري لكِ عشاءً ساخنًا.
نظرت إليه بريبة، كما لو أنها لم تعتد على اللطف المجاني. لكنها بعد لحظة،
نهضت وتبعته.
لم يكن يدري أن هذه الخطوة الصغيرة ستغير كل شيء...
الفصل الرابع: عائلة لم تكن
جلسا في مطعم صغير على زاوية الشارع، حيث كان الهواء البارد لا يزال يحمل
آثار المطر. طلب سامي حساءً ساخنًا وقطعة خبز، بينما جلست الطفلة مقابله تحدق في الطاولة
بصمت.
حين وصل الطعام، لم تنتظر طويلًا، أمسكت بالملعقة وبدأت تأكل بنهم، وكأنها
لم تذق طعامًا منذ أيام. راقبها سامي بصمت، شعر بشيء داخله يتحرك.
- ما اسمكِ؟
توقفت للحظة، رفعت عينيها إليه ثم قالت بخجل:
- ليلى.
- اسم جميل، ليلى.
لم ترد، فقط أكملت طعامها بصمت، لكن بدا على ملامحها شيء من الارتياح.
في تلك الليلة، لم يعد بإمكان سامي تركها وحدها. فكر في أن يأخذها إلى مركز
الرعاية الاجتماعية، لكنه تردد. هل سيكون ذلك أفضل لها حقًا؟
لكنه لم يملك خيارًا آخر.
الفصل الخامس: القرار
في صباح اليوم التالي، اصطحبها إلى مركز رعاية الأطفال، حيث استقبلتهم موظفة
شابة بابتسامة باردة. أخبرها سامي عن ليلى، عن كونها بلا مأوى، وسأل عن إمكانية مساعدتها.
نظرت الموظفة إلى الطفلة، ثم قالت بصوت عملي:
- سنحتاج إلى بعض الإجراءات، لكن يمكننا إيجاد مأوى لها.
شعر سامي بانقباض غريب، لكنه هزّ رأسه بالموافقة. التفت إلى ليلى وقال بهدوء:
- سيكون لديكِ مكان دافئ هنا، وستكونين بخير.
نظرت إليه للحظة، ثم همست بصوت بالكاد سمعه:
- كنت أظنك ستبقى.
تردد للحظة. لم يكن يتوقع تلك الكلمات، لكنه شعر بثقلها. حين غادر المركز،
كان يعلم أنه لن يستطيع نسيانها.
الفصل السادس: العودة
مرت أيام، حاول سامي العودة إلى روتينه القديم، لكن كل شيء بدا فارغًا. ليلى
لم تفارق ذهنه، وكأنها تركت فجوة لا يمكن سدها.
في أحد الأيام، قرر زيارتها. حين وصل إلى المركز، أخبروه أنها لم تتكيف جيدًا،
كانت ترفض التحدث، وكانت تجلس بصمت أغلب الوقت.
حين رآها، كانت تجلس بجانب النافذة، تحدق في الخارج كأنها تنتظر شيئًا.
- ليلى.
التفتت إليه، وبمجرد أن رأته، اتسعت عيناها، لكنها لم تقل شيئًا.
جلس بجانبها، ثم قال بهدوء:
- هل تودين العودة معي؟
لم ترد، فقط هزت رأسها بقوة.
في ذلك اليوم، قرر سامي أنه لن يتركها مجددًا.
الفصل السابع: بيت جديد
لم تكن الإجراءات سهلة، لكن بعد جهد طويل، حصل سامي على الموافقة لتبنّيها.
لم يكن يتوقع أن يتحول من رجل يعيش وحده إلى أب بين ليلة وضحاها، لكنه لم يشعر بالندم.
حين دخلت ليلى منزله لأول مرة، نظرت حولها باندهاش، ثم التفتت إليه وسألته
بخجل:
- هل يمكنني أن أضع معطفك في الخزانة؟
ابتسم سامي وقال:
- هذا بيتكِ الآن، يمكنكِ فعل ما تريدين.
ابتسمت ليلى، وللمرة الأولى، شعر سامي أن المطر الذي أغرق حياته لسنوات، أخيرًا
غسل عنه بعض الأحزان.
وفي تلك الليلة، كتب في دفتره الأسود:
"بعض الأرواح لا تأتي إلى حياتنا صدفة... بعضها يأتي لينقذنا، حتى ونحن
نظن أننا نحن من ننقذها."
النهاية.