📁 تدوينات جديدة

قراءة نقدية: "مرايا الزمن الغائب" لحسن امحيل... كيف تُعيد تشكيل مفاهيم الزمن والهوية عبر مرايا الأدب العالمي؟

قراءة نقدية: "مرايا الزمن الغائب" لحسن امحيل... كيف تُعيد تشكيل مفاهيم الزمن والهوية عبر مرايا الأدب العالمي؟ 

ناريمان همامي | تونس

المقدمة: الزمن كممر إلى الذات 

في قصة "مرايا الزمن الغائب" للكاتب (حسن امحيل)، يتحول الزمن من سلسلة أحداث خطية إلى فضاء سردي يستوعب أسئلة الوجود الأكثر إلحاحا: ماذا لو أتيح لنا أن نعيش حيوات متوازية؟ وكيف تحدد خياراتنا هويتنا؟ تقدم القصة إجابة عبر استعارة مدهشة: مرايا تعكس نسخا مختلفة من الذات، وساعة توقفت عن الدوران كرمز للزمن المعلق بين الماضي والمستقبل. هذه الرمزية لا تذكرنا بأعمال أدبية عالمية فحسب، بل تحيي حوارا معها، مثل "حديقة الممرات المتشعبة" لخورخي لويس بورخيس و"سيدهارتا" لهيرمان هيسه، لكنها تظل متمسكة بخصوصيتها الثقافية والسردية.

الزمن هنا ليس مجرد إطار للأحداث، بل شخصية فاعلة تدفع البطل لمواجهة ذاته عبر عوالم موازية. المقهى العتيق، والسوق الخالي من الأرواح، واللافتة النحاسية التي تحمل اسم "دروب المسافرين"، كلها تفاصيل تمنح القصة نكهة محلية تتعانق مع الأسئلة الكونية. المرايا ليست مجرد أداة سريالية، بل جسر بين الواقع والممكن، بين الذات التي نعيشها وتلك التي حرمنا منها. بهذا، لا تسعى القصة إلى استدعاء التراث الأدبي العالمي، بل أعادت صياغة ثيمتها عبر عدسة إنسانية حميمة، تذكرنا أن الحكمة ليست في تعداد الحيوات، بل في عيش واحد بكل تناقضاته. 

الساعة المتوقفة: الزمن الذي يرفض أن يكون سجينا

تبدأ القصة بوصف ساعة مهترئة توقفت عقاربها، أهديت للرجل مع تحذير غامض: "الوقت ليس كما يبدو". هذه الساعة، بصدئها وصمتها، تتجاوز كونها مجرد ديكور سردي؛ إنها عتبة رمزية لدخول عوالم تتحدى المنطق الزمني المألوف. هنا، يلتقي تصور (حسن امحيل) مع رؤية (خورخي لويس بورخيس) في "حديقة الممرات المتشعبة"، حيث الزمن ليس سهما يطير للأمام، بل شبكة من المسارات المتقاطعة التي تعيش جميعها في آن واحد. لكن بينما يغوص (بورخيس) في تعقيدات ميتافيزيقية مجردة، يربط (حسن امحيل) الزمن بواقع الإنسان اليومي: الساعة المهترئة تشي بهشاشة الذاكرة، وبـ"تجمد" اللحظات الحاسمة التي تجمدنا خوفا من خياراتها. هذا الربط بين الزمن والخيارات يتكرر في رواية "مكتبة منتصف الليل" لمات هيغ، حيث تكتشف البطلة "نورا" أن حياتها الحالية مجرد صفحة في كتاب لا نهائي من الاحتمالات. لكن (حسن امحيل) ينأى عن فكرة الهروب إلى العوالم الموازية؛ فبطله لا يغادر مقهاه العتيق، بل يواجه نسخا من ذاته في مرايا تجبره على مواجهة السؤال الأكثر إيلاما: هل كان بإمكانه أن يكون سعيدا لو اختار غير ما اختار؟ الإجابة تأتي لاحقا في رفض البطل التخلي عن واقعه، وهو رفض يعكس نضجا في الرؤية يتجاوز "الندم" إلى "التصالح"، وكأنه يردد بصمت: الحياة ليست فيما فقدناه، بل فيما قررنا أن نعيشه.

المرايا: الهوية بين التشظي والاكتمال

تتحول قاعة المرايا اللانهائية إلى استعارة مكثفة عن الهوية المتعددة، حيث تتحول كل مرآة إلى نافذة على حياة لم تعش. في انعكاساتها، يرى البطل نفسه فنانا جوالا ينثر الفرح، أو متصوفا منعزلا يلتمس الحكمة في السكون، أو شاعرا شهيرا تحمل كلماته على الأكتاف. هذا التعدد لا يذكرنا فقط برحلة "سيدهارتا" لهيرمان هيسه -الذي تنقل بين الثراء والزهد بحثا عن الذات- بل يعيد تعريف السؤال الوجودي: أهي الهوية اختيار أم مصير؟ لكن بينما يذوب سيدهارتا في وحدة الوجود، يرفض البطل عند (امحيل) تبني أي من الهويات البديلة، معلنا أن "الحكمة ليست في تعدد الحيوات، بل في عمق واحدة عاشها بصدق". هذا الرفض ليس هروبا من الواقع، بل إدراك أن الهوية الحقيقية تنسج من خيوط التناقضات التي نعيشها، لا من الأحلام التي نلهث وراءها.

هنا يختلف (حسن امحيل) عن (فرجينيا وولف) في "السيدة دالواي"، حيث تصور الشخصيات سجينات صراع بين ما يفترض أن تكونه وما تريده. بطل "مرايا الزمن الغائب" لا ينكر تشظيه، بل يعترف به كجزء من سردية حياته، ويعيد تركيب ذاته عبر تقبل واقعه كعملية مستمرة. فالهوية، في النهاية، ليست قناعا نلبسه، بل جرح نحمله وهو يندمل.

العودة إلى المقهى: الواقع كخيار نهائي 

تعود القصة إلى نقطة البداية: المقهى القديم، الساعة المتوقفة، والرجل الذي يبتسم. هذه العودة لا تعني الجمود، بل تشبه رحلة أوليسيس في "الأوديسة"، الذي يعود إلى إيثاكا ليكتشف أن الوطن ليس مكانا بل حالة وعي. الابتسامة هنا هي لحظة تصالح مع الذات، بعد أن أدرك البطل أن الزمن ليس ساعة تدور، بل قصة تروى بوعي. 

هذه النهاية تلتقي مع فلسفة (ألبير كامو) في "أسطورة سيزيف"، حيث يصبح تقبل العبث مصدرا للتحرر. لكن امحيل يضيف بعدا إنسانيا: الندم على الفرص الضائعة ليس دليل فشل، بل دليل حياة مليئة بالخيارات التي تستحق أن تحكى. 

(حسن امحيل) والأدب العالمي: حوار عبر الحدود

قد تدفعنا المقارنة مع (بورخيس) أو (هيسه) إلى رؤية القصة كجزء من تيار أدبي عالمي، لكن تميز "مرايا الزمن الغائب" يكمن في جذورها المحلية. فالمقهى العتيق، والسوق الخالي من الأرواح، واللافتة النحاسية بـ "دروب المسافرين"، كلها تفاصيل ترجعنا إلى فضاء مغربي مألوف، حيث تلتقي الحكايات الشعبية بالأسئلة الوجودية. هذا المزج بين المحلي والعالمي هو ما يمنح القصة صوتا فريدا: فالبطل ليس فيلسوفا منعزلا، بل إنسان عادي يبحث عن معنى في فوضى العالم. 

الخاتمة: المرايا كجسر بين الذات والكون 

لا تقدم "مرايا الزمن الغائب" إجابات سهلة، بل تفتح نافذة للتأمل في أسئلة لا تنتهي: ماذا نرى حين ننظر إلى مرايا ذواتنا؟ هل نبحث عن كمال مستحيل، أم نتقبل شقاوتنا كجزء من جمالنا؟ القصة، برموزها البسيطة وعمقها الإنساني، تؤكد أن الهوية ليست مصيرا معلقا في الزمن، بل حكاية ننسجها يوميا بخيوط الخيارات والندم. 

هنا تلتقي "مرايا الزمن الغائب" لحسن امحيل مع الأدب العالمي: ليس في تقنية السرد، بل في الإيمان بأن الأدب ليس مرآة للواقع، بل أداة لإعادة اكتشافه. وهكذا، تصبح القصة دعوة للقارئ: أن يجد في مراياه الخاصة ليس ما فاته، بل ما يمكنه أن يرويه الآن.


تعليقات