📁 تدوينات جديدة

مرايا الزمن الغائب | حسن امحيل

مرايا الزمن الغائب | حسن امحيل
 حسن امحيل | المغرب

في ركنٍ شبه معتم من مقهى قديم، جلس ينظر إلى ساعته المهترئة التي توقفت عقاربها منذ سنوات، أهداها إياهُ أحدهم قبل عشرين عاما، وقد أخبره وهو يسلمه إياها:

"أحيانا، الوقت ليس كما يبدو. سيأتيك اليوم الذي ستستوعب فيه، لكن حتى حينه، لا تسأل."

لم يفهم مغزى الكلام حينها، لكنه ظل محتفظا بالساعة، ربما لأنها كانت الشيء الوحيد الثابت في حياة تملؤها الفوضى.

وفي تلك الليلة، بعد أن أمعن النظر في ساعة المقهى التي لم تتوقف عن الدوران، شعر أن شيئا يتسلل من بين عقاربها، حركة لا تراها الأعين بل تحسها الأرواح. خيِّل إليه أن الزمن بأكمله يتشقق حوله، ودوامة ضخمة تدور به على أطراف الكراسي المتهالكة والجدران التي فقدت لونها. عندما أغمض عينيه، وجد نفسه يهبط في نفق لا نهاية له، خفيفا كريشة في مهب الريح.

فتح عينيه ليجد نفسه في مكان يعرفه تمام المعرفة، لكنه خال من أي روح. السوق الذي طالما مر به صغيرا، كان يطغى عليه السكون، كأن العالم كله قد انكمش ليتركه وحده في هذا البعد المجهول. اقترب من دكان قديم لمّعت فيه الشمس لافتة نحاسية كتب عليها بخطٍ قديم: "دروب المسافرين".

اندفع داخله بفضول يلهث، فألفى نفسه في قاعة عظيمة جدرانها مرصوفة بمرايا لا نهاية لها، كأنها جدران الزمن ذاته. في كل مرآة رأى وجهه، بملامح مختلفة؛ في واحدة شابا يافعا بروح متمردة، وفي أخرى كهلا متعبا، وفي ثالثة شاعرا معروفا على منصات الأدب. كل مرآة كانت تحمل احتمالا لم يقطفه، خيارا لم يُرد اتخاذه، أو طريقا أُغلق في وجهه قبل أن يسلكه.

بيده المرتجفة، مدَّ يده إلى إحدى المرايا التي بدت ضبابية، وانكشفت له حياة أخرى؛ حياة كان فيها فنانا مسرحيا يسافر بين مدن العالم، ينثر الضحكات والأحلام، ويعبر بلطف خلال الجموع. تلتها حياة أخرى، حيث عاش متنسكا في جبال بعيدة، يجلس في صمت عميق، يراقب الغيوم والسكون، ويكتب على أوراق متفرقة كلمات لا يفهمها إلا هو.

بضع خطوات فقط، ويغرق أكثر في صخب المرايا، كل حياة فيها شوق وحزن وندم وفرح. في مرآة أخيرة، رأى صورته الحالية، هيأته المنهكة، وذاك الكرسي المهترئ في المقهى الذي ألفه لسنوات. بدا المشهد مغلفا بكآبة لا يفسرها سوى الزمن الذي مر، والفرص التي تبخرت.

بينما هو متردد، سمع همسا يأتيه من أعماق المرآة:

"يمكنك أن تبدأ من جديد، أن تختار أي درب تريده."

لامست أصابعه زجاج المرآة التي وجد فيها ذاته في تلك الجبال، صوفيا ينظر إلى السماء ويتنفس الكون بلا حدود. لكن فجأة، طغى عليه شعور غريب، شيء في قلبه أوقفه، همس له بأن الحكمة ليست في تعدد الحيوات، بل في عمق واحدةٍ عاشها بصدق.

انسحب إلى الخلف، تأمل وجوهه التي خلفتها المرايا، وانساب خارج القاعة ببطء. لم يبتعد سوى خطوات قليلة، حتى عاد إلى المقهى، وفي يده الساعة المهترئة التي لم تكن تشير إلى أي وقتٍ بعد الآن. نظر حوله، حيث العابرون والكراسي العتيقة، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة هادئة.

تعليقات