📁 تدوينات جديدة

قاعة الانتظار | قصة: جهان الموذن

قاعة الانتظار | قصة: جهان الموذن

جهان الموذن | المغرب

كان الهواء في القاعة ثقيلا، يحمل رائحة عتيقة كأن الزمن توقف فيها منذ عقود. جدران باهتة، إضاءة خافتة تتراقص كأنها تترنح بين الحياة والموت، وصفوف المقاعد كانت مصطفة بدقة، تحتضن أجسادا صامتة، عيونهم مثبتة على شاشة كبيرة تتوسط الجدار الأمامي. كانت الأرقام تتغير ببطء، كأنها تتلاعب بالوقت. لا أحد يتكلم، لا أحد يتحرك. كان الصمت سيد المكان، فقط انتظار… انتظار ثقيل لا تدري (نور) سببه.

تقدمت ببطء، تبحث بعينيها عن مقعد شاغر. وجدت واحدا وحيدا في زاوية القاعة، فجلست وعيناها تجولان محاولة استكشاف هذا المكان الغريب وتتنقلان بين الموجودين. لمحت قبالتها رجلا مسنا بملامح متعبة، عروق يديه بارزة، وعيناه عالقتان بالشاشة كأنه ينتظر خلاصه. بجانبه شاب يحمل كتابا، عيناه جامدتان بين الصفحات لكنه لا يقرأ. وعلى الطرف الآخر، امرأة تهمس لنفسها بكلمات غير مفهومة، كأنها تخاطب أشباحا لا يراها أحد سواها.

رفعت (نور) نظرها إلى اللوحة المعلقة فوق الباب الوحيد في القاعة، كانت عليها كتابة باهتة تكاد تمحى: "قاعة الانتظار". شعرت بارتباك. متى وصلت إلى هنا؟ كيف؟ آخر شيء تتذكره أنها كانت في محطة القطار، جالسة تنتظر قطارها. ثم فجأة… ظلام... فوجدت نفسها هنا. حاولت استعادة ما حدث، لكن عقلها اصطدم بجدار فارغ. عبست وهي تحاول استرجاع الجزء الممسوح من ذاكرتها، لكن شيئا ما كان مفقودا، وكأن جزءا من ذاكرتها ممسوح.
مرت الدقائق، ثم الساعات، لكن لم يكن هناك أي إحساس حقيقي بالوقت. شعرت (نور) بالملل والقلق، فنهضت واتجهت نحو الباب، دفعته بكل قوتها لكنه لم يتحرك.

التفتت إلى الجالسين، وسألت بصوت منخفض بالكاد يسمع وكأنها تخشى أن تكسر صمت المكان:
- معذرة… متى ينادون على أرقامكم؟

نظر إليها الرجل المسن أخيرا، وقال بصوت بائس يملأه الحزن والأسى:
- حينما نقرر التخلي عن شيء مقابل الخروج، عندها نستطيع المغادرة.

تجمدت في مكانها، لم تفهم ما يقصده. شعرت بقشعريرة باردة تسري في جسدها... تراجعت خطوة للخلف ويداها ترتجفان، رمقت الرجل المسن بنظرة متوجسة سائلة إياه:
- ماذا تقصد؟

لكنه لم يقل شيئا آخر، فقط عاد إلى تأمل الشاشة كما لو كان يزن اختياره، شعرت وكأن الهواء من حولها صار ثقيلا وكأن المكان نفسه يتنفس بصمت... نظرت حولها مجددا، إلى الصامتين المنتظرين، كلهم يبدون كما لو كانوا جزءا من هذا المكان، كأنهم صاروا ظلالا لأنفسهم. نظرت (نور) إلى شاشة الأرقام لازالت تتغير ببطء، لكنها لم تكن مرتبة، ثم فجأة توقفت الشاشة في الرقم 15... لم يهتم أحد بهذا الرقم كأنه لا يخص أي شخص في القاعة، فتوجهت نحو الشاب صاحب الكتاب، فسألته:
- هل تعرف ما الذي يجري هنا؟

أغلق الشاب الكتاب ورفع عينه ببطء، كانت ملامحه هادئة وكأنه في سلام مع الموقف... أجابها بهدوء:
- هنا لا يغادر أحد مجانا...
- ماذا يعني هذا؟
- عليكِ التخلي عن شيء… شعور، ذكرى أكثر قيمة أو ربما جزء من نفسك.

غمرها الرعب وازدادت ارتباكا حينما لم تستطع أن تتذكر كيف وصلت إلى هذا المكان الغريب، وكأن عقلها يحاول الإمساك بشيء ينفلت منه. هل كانت حقا في قاعة انتظار عادية أم مكان أكثر غموضا؟ ومن هؤلاء الأشخاص؟ ثم همست للشاب:
- هل فقدت شيئا ثمينا؟

أومأ الشاب برأسه:
- كل منا في هذه القاعة فقد شيئا، لكن هل يستحق الأمر التخلي عن ذكرى والمغادرة؟

ثم رمقت (نور) شابة تجلس في يمين القاعة، تمسك بصورة ممزقة نصفها مفقود. تقدمت إليها (نور) سائلة إياها عن الجانب المفقود من الصورة، فهمست الفتاة بصوت خافت: "لم أعد أتذكر من كان معي فيها..."، مما زاد من إحساس (نور) بالرعب.

مرت لحظات ثقيلة عليها قبل أن تلمح تغيرا في الشاشة. ثم دق جرس خافت، وتحول الرقم إلى 10. وساد صمت رهيب داخل القاعة، ثم انتبهت إلى أن الكل التفت نحوها... فقال لها الرجل العجوز:
- حان دورك...

شعرت بقلبها يسقط في قاع صدرها… كان هذا رقمها. لكن كيف؟! لم تتذكر أنها استلمت رقما عند دخولها. نظرت إلى البقية، جميعهم يراقبونها بصمت، كأنهم يعرفون أن الوقت قد حان. ظهر باب جديد لم يكن بالقاعة نهضت مترددة، وكأن ساقيها لا تسعفانها على المشي. على الأرض يجلس طفل ذو نظرات بريئة ويرسم دوائر بيده على الغبار المتراكم. مرت (نور) بجانبه، ابتسم لها وسألها: "هل ستعودين إذا خرجت؟ لأنهم يقولون أن من ينسى لا يعود أبدا..."، مما تركها في حيرة أكبر. تقدمت نحو الباب الجديد، كان أخضر باهتا، مقابضه سوداء، كأنه لم يُلمس منذ قرون. فجأة ظهرت أمامها طفلة صغيرة، لا تبدو خائفة، بل تبتسم بثقة غريبة. نظرت إليها (نور) بدهشة، وقبل أن تنبس بكلمة، همست الطفلة:
- أنا (نور)… انعكاسك الصغير. هل ستغادرين بدوني؟

تجمدت (نور) في مكانها، وقبل أن تستوعب ما يحدث، اختفت الطفلة وكأنها لم تكن موجودة أبدا. نظرت (نور) حولها باحثة عنها، لكن لا أثر، لا ظل، لا همسة… كأنها لم تكن سوى طيف عبر للحظة تاركا خلفه دوامة من الأسئلة دون أن تجد لها إجابة.

بعد لحظات انفتح الباب تلقائيا، كاشفا عن غرفة صغيرة مضاءة بمصباح أصفر خافت. في وسطها مكتب خشبي قديم، وخلفه رجل غريب الملامح، أشار إلى الكرسي أمامه:
- اجلسي، (نور)...

اتسعت عيناها من الدهشة... كيف يعرف اسمها؟ ترددت للحظة، لكنها جلست وسألته:
- ما الذي جاء بي إلى هنا؟

أشار إلى صندوق أسود صغير على المكتب... فتحه ببطء، في داخله مفتاح ذهبي وورقة مطوية:
- المفتاح للخروج، شريطة أن تتخلي عن شيء: شعور… ذكرى… جزء منك..."

تسارعت دقات قلبها، وبدأت تدرك أن هذه لم تكن مجرد قاعة انتظار، هذا مكان تؤخذ فيه القرارات المصيرية، حيث يغادر البعض بجزء مفقود، بينما يبقى آخرون عالقين للأبد. ماذا لو كان الشيء الذي ستنساه مهما؟ ماذا لو كان جزءا من هويتها؟

نظرت إلى المفتاح ثم إلى الورقة... يدها تقترب ببطء، ترتجف من شدة الخوف ونبضات قلبها تتسارع... لمست الورقة بلطف... لم تتمكن من حملها... شعرت وكأنها أثقل من المتوقع، وكان الرجل يراقبها بكل هدوء وصبر، ثم قال:
- إذا فتحتها فلا يكون هناك رجوع...

ابتلعت ريقها وفتحت الورقة وعيناها تتنقلان بين السطور، وكان مكتوب عليها: سيمحى هذا الاسم من ذاكرتك (أسعد). همست بصوت بالكاد يُسمع:
- من هو أسعد؟
- "هذا هو الاختبار… إذا كنتِ لا تتذكرينه، فهل يهم إن نسيته؟

ووقفت ضائعة بين عقلها الذي يخبرها بأنه لا يمكنها فقدان شيء لا تعرفه وبين قلبها الذي كان يصرخ بأن هناك جزءا ناقصا منها، شيئا كان مهما ذات يوم... نظرت إلى المفتاح:
-هل... هل يمكنني معرفة من هو قبل أن أقرر؟
- هذا ليس جزءا من القواعد...

كان أمامها خياران: إما أن تأخذ المفتاح وتخرج، لكن بشيء ناقص داخلها… أو ترفض وتبقى هناك إلى الأبد.

أغلقت عينيها للحظة، استنشقت بعمق، وحاولت أن تقاوم الفراغ، أن تسترجع شيئا، أي شيء… ثم بدأت الذكريات تظهر مشوشة كضوء خافت وسط ضباب كثيف:
"نحن سنتزوج بعد التخرج، أليس كذلك؟"
"طبعا، عزيزتي (نور). ستكونين الطبيبة الأشهر، وأنا الجراح المبدع، وسنبني حياتنا معا!"

صوت بعيد… ضحكة قديمة… صورة باهتة لرجل يقف بجانبها في ممر المستشفى… ثم فجأة، فراغ. شعرت بغصة في حلقها، وكأن أحدا سحب منها ذكرى بالقوة. ثم بدأت الذكريات تعود بوضوح. المشفى، الرسائل الطويلة، الأحلام المشتركة… ثم البرود المفاجئ. المواعيد المؤجلة، الردود الباردة. ثم… زفافه من ابنة مدير المستشفى. تسارعت أنفاسها. شعرت بوخزة مؤلمة ووضعت يدها على قلبها وهي تشعر بوجع قديم يعود للحياة. أسعد… كان حب حياتها. وكان أيضا أحد خياناتها الكبرى. نظرت إلى المفتاح، ثم إلى الورقة. يدها ترتجف. هل كانت مستعدة لنسيانه؟ أم أن الاحتفاظ بالألم كان الخيار الأصح؟

بعد لحظات من التردد، أعادت المفتاح للصندوق، دفعت الورقة بعيدا، ثم رفعت عينيها إلى الرجل الغامض، وقالت بصوت ثابت:
- سأحتفظ بألمي، فهو جزء مني لا أريد أن أنسى.

ابتسم الرجل، كأنه توقع قرارها، وأغلق الصندوق بهدوء:
- إذن، لقد اخترتِ الطريق الأصعب، (نور)... قلة فقط من يملكون الشجاعة لفعل ذلك.

بدأت القاعة تهتز من حولها، والأرقام على الشاشة تختفي تدريجيا، شعرت (نور) بدوار مفاجئ، كأنها تُسحب بقوة خفية، ثم الظلام... فتحت عينيها لتجد نفسها جالسة في محطة القطار، في نفس المكان الذي كانت تنتظر فيه قطارها قبل أن تبدأ هذه الرحلة الغريبة. الناس يسيرون بشكل طبيعي، لا أحد يبدو مدركا لما مرت به.

لكنها شعرت باختلاف عميق داخلها. لم يعد الألم مجرد جرح، بل درس. لم يعد الانتظار خيارا، بل قوة تدفعها للأمام.

وصل وقت رحلتها، استقلت القطار، ونظرت خلفها كأنها تودع شيئا قديما. وللمرة الأولى منذ زمن طويل، ابتسمت.

ثم همست لنفسها:
- أنا لم أعد أنتظر... نعم مواجهة الماضي تؤلم، لكنها تمنح القوة.

تعليقات