غياب
رحلْتَ…
كأنَّ البحرَ ألقى ظلَّهُ في كفِّي،
ثمّ انسحبَ دونَ أنْ يتركَ ماءً.
كأنَّ الريحَ وضعتْ فستانَها في خزائني،
وتركتني أرتجفُ من الفراغِ المخيطِ بالخيوطِ الوهميّة.
كنتَ مدينةً من نوافذَ لا تُغلقُ،
حملتُ مفاتيحَها في قلبي،
وحينَ فتحتُ الصباحَ،
وجدتُ العتمةَ تتدلّى كستائرَ مبتلّة.
لم تكنْ طريقًا…
كنتَ غبارَ الطّريق،
كنتَ الصوتَ الذي تخلّى عن حلقِ الأغنية،
وكنتُ أنا،
أضبطُ إيقاعَ الغيابِ
كراقصةٍ في زفافِ السراب.
كلُّ المرايا الآنَ مُطفأة،
لكنّها تلمعُ من الداخل،
كأنّك تركتَ وجهكَ فيها،
ثمّ اختفيتَ.
ظلال سامة
في الأزقّةِ الضيّقة،
تنمو الظلالُ كعشبٍ لا يحتاجُ شمسًا،
تمدُّ أصابعَها على الجدرانِ العتيقة،
تتحسّسُ الوجوهَ العابرةَ
وتتركُ أثرًا لا يُرى،
لكنّه يُشعَرُ حينَ يمرُّ النسيم.
هناكَ، حيثُ لا تُقاسُ الخطواتُ بالسّاعات،
يمضي الوقتُ متثاقلًا،
كأنّه يحملُ فوقَ ظهرِه
أرواحًا عالقةً بينَ العتمةِ والنّور،
وجوهًا ترتدي الضبابَ عباءة،
وهمساتٍ تُنسَجُ في الهواءِ كمِصائدَ غيرِ مرئيّة.
في كلِّ نافذةٍ عينٌ تنتظر،
لكنّها لا تترقّبُ الغائبين،
بل تحصي الخطايا الصغيرة،
تخبّئها في جُيوبِ الريح،
ثمّ تُطلقُها حينَ تمرُّ القوافلُ العائدة،
لتلتصقَ بثيابِ العابرين
كالغبارِ الذي لا يُغسل.
كلّما مشيتُ، شعرتُ أنَّ الأرضَ لزجة،
كأنّها ابتلعتْ خُطى مَن مضوا،
وتركتْ لهم ظلًّا يُراقب،
ينتظرُ اللحظةَ التي لا تأتي،
لكنّها تُثقلُ الهواءَ،
كأنَّ السماءَ نفسها
تحملُ ما لا يُرى.
نور
لم أكُن وحدي حينَ مشيتُ في الدروبِ الضيّقة،
كانَ هناكَ ضوءٌ خفيٌّ
يُمسكُ بخطواتي قبلَ أن تتعثّر،
يُعلّمني كيفَ تنبتُ الأجنحةُ
حتى حينَ يبدو الهواءُ ثقيلًا.
في كلِّ سقوطٍ،
كانت يدٌ غيرُ مرئيّة
تُعيدُ ترتيبَ روحي،
تنفضُ عنّي غبارَ التردّد،
وتكتبُ على جبيني
أنَّ الطريقَ لي،
وأنَّ السماءَ أقربُ مما يظنُّ القلبُ المرتعش.
لم أخفْ من الظلالِ التي عبرتني،
ولا من الصمتِ الذي حاولَ أن يبتلعَ صوتي،
كنتُ أعرفُ أنَّ خلفَ هذا الصمتِ
نبضًا لا يخفتُ،
وأنَّ بينَ الغيومِ بابًا،
يفتحُ حينَ يُناديه اليقين.
أنا ابنة النورِ الذي لا ينطفئ،
ابنة النجومِ التي لا تضلُّ الطريق،
حينَ يضيقُ الأفقُ،
أرفعُ رأسي،
فأرى إشاراتٍ لا تُخطئ،
وأعرفُ أنَّني أمضي،
ليسَ وحدي،
بل بيدٍ تقودُني
إلى حيثُ كُتبَ لي النّجاح.