عبد الحق
شابل | المغرب
في يومه الأول في مقر عمله كموظف بعد حصوله على الإجازة واجتياز المباراة
والتكوين، يخرج "سعادته" من عتبة الإدارة الجديدة بكامل الهيبة والامتيازات:
راتب محترم في شهره الأول قد يصل إلى خمسة عشر ألف درهم، سكن أرضي مستقل أو تعويض عنه
بما يزيد عن ثلث أجره في حالة عدم توفيره، سيارة الخدمة المجانية، بوقود مجاني، مكتب
مكيف، مساعدون أوفياء، وأبواب مفتوحة نحو عالم السلطة والنفوذ.
وعلى بعد كيلومترات، يقف موظف آخر جديد، تعين بعد حصوله على الإجازة كذلك
واجتياز مباريات وتكوين، بوجه متعب وروح مثقلة بالأمل والخيبة، حاملا محفظته البسيطة
وعقد تعيينه الأول، حيث كتب عليه اسم مدرسة في قرية نائية في أعماق المغرب. بأجر لا
يتجاوز ثلث أجر الأول، ويتأخر وصوله لعدة شهور، حيث عليه أن يدبر أموره بنفسه، ويجد
سكنا بأقل الأثمان، يقتسمه ومعيشته مع الغربة وغرباء من نفس الميدان، يتعلم منذ اليوم
الأول درسا في التقشف والصبر.
في المقاهي والأسواق، يتداول الناس نكاتا عن "بخل" صاحبنا المسكين،
وعن سلطته المعدومة على أطفال لم يعد لهم حد أدنى من الاحترام والخجل، مقارنة بهيبة
الموظف "المحظوظ" وسطوته. كأن المجتمع كتب منذ القدم أن تكون الزرواطة أعلى
من الكتاب، وكأن التعليم، رغم كونه أصل الحضارة، لا يرقى إلى مكانة من يحكم الناس.
في مكتبه الواسع، يجلس الموظف الهمام، يمضي القرارات بيد من حديد، يقرر في
رخص البناء والبيع بجميع أنواعه، يعرف تحركات البشر والبهائم، يجالس رجال السلطة ورؤساء
الجماعات والمنتخبين. الفرص أمامه بلا حصر، فكم من مستثمر يطرق بابه، وكم من متملق
يسعى لنيل رضاه.
أما صاحبنا، فيدخل فصله الصغير، يواجه أربعين تلميذا بعيون متعبة، يحاول أن
يزرع فيهم بذور المعرفة رغم كل التحديات، ورغم اقتناعه أنه لم يعد مثالا وقدوة بالنسبة
لمعظمهم نظرا لاجتياح بعض الكائنات التي نجحت بطريقة ما في عوالم الرياضة والفن، منصات
التواصل الاجتماعي وصفحات المجلات وعناوين الأخبار، إلا أنه يحاول أن يقنعهم أن العلم
"لا يكيل بالباذنجان".
تمر الأيام وهو ينهك جسده ويفني زهرة
شبابه بين سبورة ودفاتر وأوراق تعاد كل سنة، وبين رحلة مضنية من صراع مع لقمة العيش،
ومحاولات شاقة لتوفير ما سيمكنه من اقتناء شقة وسيارة، محققا بذلك "الحلم المغربي".
أما "الحياة الكريمة" فمن يعرفها جيدا، يمر بسيارته اللامعة، تلاحقه
نظرات الإعجاب من الأطفال والآنسات، فهو رجل السلطة صاحب النفوذ.
بينما يحلم صاحبنا باليوم الذي سيتقاضى أجره فيه، ويعد كل يوم - وبرقمين وراء
الفاصلة - ما سيتحصل عليه وما سيرده كدين، وأول ما يفكر فيه هو شراء دراجة نارية تحفظ
كرامته وهو يتنقل لشراء ما يلزمه. يحمل محفظته على ظهره، تاركا مسكنه قرب المقبرة،
مستعجلا كي لا يتأخر عن حصته، يركض بين الحصص والواجبات، يحاول فقط أن "يتعادل
مع الحياة"، لكن المباراة غير عادلة منذ البداية.
يتبع...