📁 تدوينات جديدة

ضجيج الصمت | قصة: حسن امحيل

ضجيج الصمت | قصة: حسن امحيل

حسن امحيل | المغرب 

في شقته المكتظة بالكتب والصور، جلس على حافة النافذة العالية، يراقب المدينة التي تلتهم السماء بأضوائها وضجيجها. الرياح الباردة تلاحق أفكاره كهمسات خفية، تدفعه نحو ذكريات مدفونة في زاوية مهملة من روحه. هناك، في قريته الصغيرة التي احتضنت طفولته، كان العالم يبدو مختلفا، أكثر بساطة وصدقا، لكنه الآن بات يشبه حلما بعيدا، يبهت كلما حاول الاقتراب منه.

في ذاكرته، كانت القرية تنبض بالحياة. الأشجار الشامخة التي كانت تحتضن السماء، النهر الصغير الذي يعكس وجه الغيوم، والطرقات الترابية التي كانت تحتفظ بخطواته الطفولية. كل زاوية في المكان كانت تروي حكاية، وكل نسمة هواء كانت تحمل رائحة الألفة. لكنه مع مرور الوقت، بدأ الحنين يتخذ شكلا غريبا. كلما تذكر المكان، بدا وكأنه يتلاشى تدريجيا، تاركا خلفه صمتا يشبه الضجيج.

في تلك الليلة، حين غلبه النعاس، زاره حلم غريب. وجد نفسه يمشي في أزقة القرية، لكنها لم تكن كما يتذكرها. كانت الأزقة مظلمة، والأشجار التي كانت يوما خضراء مليئة بالحياة، باتت عارية، أغصانها تمتد نحوه كأنها تستجدي الرحمة. لم يكن وحيدا؛ كانت هناك ظلال تتبعه، أشخاص يعرفهم لكنه لا يستطيع أن يتبين ملامحهم.

عندما وصل إلى بيته القديم، رأى الباب مفتوحا. من الداخل، انبعث صوت طفل يضحك. تردد في الدخول، لكنه غلبه الفضول. عندما أطل، رأى نفسه طفلا صغيرا، جالسا على الأرض، يلعب بقطعة خشب بسيطة. التفت الطفل نحوه، عيونه البريئة تتوهج وسط الظلام، وقال بابتسامة: "لماذا تأخرت؟"

استيقظ فزعا، لكن الحلم لم يغادره. ظل صوت الطفل ورائحته وكأنهما عالقان في أجواء الغرفة. حاول تجاهل الأمر، لكنه كان يشعر بشيء يجذبه نحو ذلك المكان. بعد أيام من الصراع الداخلي، قرر العودة إلى القرية.

عندما وصل، وجدها كما تركها، لكنها كانت خاوية من الحياة. البيوت مهجورة، والنوافذ متصدعة، والأشجار التي كانت تنبض بالحياة أصبحت أشبه بأطلال. ومع ذلك، شعر بالطمأنينة. مشى ببطء في الأزقة التي عرفها طفلا، كل خطوة كانت تنزع عنه ثقل السنوات التي مضت.

وصل إلى البيت القديم، المكان الذي زاره في الحلم. الباب كان مغلقا هذه المرة. دفعه ببطء، ودخل. كان الداخل مليئا بالغبار، لكن كل شيء بدا كما تركه، وكأن الزمن تجمد. جلس على الأرض، في نفس المكان الذي رأى فيه الطفل. أغمض عينيه، وترك ذكرياته تنساب.

فجأة، بدأت الأصوات تعود. ضحكات الأطفال، حفيف الأشجار، خرير النهر. كانت الأصوات تأتي من داخله، كأن المكان الذي كان يبحث عنه لم يكن موجودا في الخارج، بل كان دائما يسكن داخله. أدرك حينها أن الحنين ليس للمكان نفسه، بل لتلك النسخة من نفسه التي تركها هناك.

فتح عينيه، وابتسم لأول مرة منذ سنوات. همس: "لقد عدتُ أخيرا." ثم غادر المكان، تاركا خلفه أبواب الماضي مفتوحة، لكنه أخذ معه السلام الذي وجده في أعماقه.

تعليقات