📁 تدوينات جديدة

تذكرة أمل | قصة: د. ليلى الراضي إيدن

 

د. ليلى الراضي إيدن | المغرب 

تذكرة أمل 

في أحد الأحياء المتواضعة، كانت الأيام تمر بطيئة، تجر خلفها تعبًا يثقل الأرواح. هناك، كانت تعيش رقية، امرأة واجهت الحياة بصلابة الجبال، رغم الرياح العاتية التي حاولت كسرها. أم لثلاثة أبناء: مصطفى، عبدالله، وسليمان، وزوجة لرجل غاب عن دوره في حياتهم، تاركًا خلفه صمتًا ثقيلاً ومسؤوليات لا تُحصى.

مع أول خيوط كل فجر، كانت رقية تستيقظ، ليس فقط لتعد الإفطار لأبنائها، بل لتبدأ يومًا من الكدح الشاق. عملها في تنظيف المنازل كان يعني ساعات طويلة من الجهد البدني، تقف خلالها على قدميها، تُنظف وتُرتب، بينما الألم يصرخ في عضلاتها. ورغم ذلك، لم تكن تشكو أو تُظهر تعبها، بل تعود إلى منزلها بابتسامة تُخفي خلفها بحرًا من الإرهاق.

رقية لم تكن أمًا عادية. كانت تُقدّس التربية الصالحة كما تُقدّس عملها. لم تُغفل يومًا عن تعليم أبنائها دروسًا في الحياة:

"النجاح لا يأتي صدفة، بل من العمل الجاد."

"الأخلاق هي الجوهرة التي لا يملكها الجميع، لكنها ما يُميزنا."

كانت حريصة على تربية ابنائها تربية صالحة.

حتى في أشد لحظات تعبها، كانت تجلس بجانب أبنائها ليلاً، تُساعدهم في دروسهم، تُشجعهم، وتزرع في قلوبهم بذور الطموح. مصطفى، الذي طالما رأته ينظر بإعجاب إلى صور الجنود، كانت تُحدثه عن الشجاعة والولاء للوطن. عبدالله، الذي يعشق بناء المجسمات الصغيرة، كانت تُشجعه قائلة: "ستبني يومًا شيئًا يعجز الناس عن هدمه." أما سليمان، فأحلامه الصغيرة كانت تتفتح أمام كلماتها الملهمة: "لا يوجد حلم مستحيل، فقط اعمل من أجله."

مرت السنوات ثقيلة، لكنها كانت كافية لتحصد رقية أولى ثمار صبرها. مصطفى أصبح جنديًا، يقف على الحدود بشجاعة وبسالة. عبدالله أصبح مهندسًا حوّل أحلامه إلى واقع. وسليمان، بعد سنوات من الدراسة والتحدي، أكمل تعليمه بتفوق وبدأ يُخطط لأولى خطواته المهنية.

رغم نجاحهم، لم ينس الأبناء الليالي الطويلة التي قضتها أمهم تُناضل من أجلهم. كانوا يدركون أن ما هم عليه اليوم ليس سوى انعكاس لتضحياتها ومعاناتها وصبرها.

في احد الأيام،بدأ الأبناء الثلاثة يخططون سرًا لرد الجميل. حلم رقية، الذي طالما تحدثت عنه بهمس، كان حاضراً في أذهانهم:  اجتمعوا ليلاً في غرفة مغلقة، يهمسون ويتناقشون. كيف يمكنهم تحقيق هذا الحلم؟ كان لديهم هدف واحد: مفاجأة والدتهم بطريقة تُخلّد اللحظة في ذاكرتهم جميعًا.

الأيام التي تلت ذلك كانت مليئة بالإثارة والغموض. مكالمات هاتفية هامسة، خروج متكرر بحجج واهية، وابتسامات خفية ترتسم على وجوههم كلما مروا بجانبها. رقية شعرت بأن هناك سرًا يُحاك، لكنها لم تكن تتوقع حجمه أو تفاصيله ولم تستفسر عنه.

في ليلة هادئة، بعد أن أنهت رقية أعمالها اليومية، طلب منها مصطفى الجلوس في غرفة الضيوف. الجو كان مُهيبًا، مع إضاءة خافتة تضفي على المكان رهبة غامضة. وقف مصطفى في المنتصف، يُمسك بيده صندوقًا خشبيًا صغيرًا.

قال بصوت مليء بالحب والتأثر:

"أمي الحبيبة، لقد كنتِ لنا النور في عتمة الحياة، والصوت الذي يُشجعنا عندما كدنا نستسلم. اليوم، حان الوقت لنُحقق لكِ جزءًا بسيطا من أحلامك."

فتح الصندوق بحذر، وأخرج منه تذكرة سفر إلى مكة المكرمة، مرفقة برسالة مكتوبة بخط يد سليمان:

"إلى أمنا الغالية... الحنونة....الرائعة.. حلمكِ هو حلمنا، وهذه رحلتكِ المباركة."

انهمرت الدموع من عينيها قبل أن تنبس بكلمة. لم تكن تتوقع أن حلمها المقدس، الذي خبأته تحت أعباء الحياة، سيتحقق بهذه الطريقة. كانت لحظة مهيبة تختصر سنوات طويلة من الكفاح والتضحية وكأنها مسلسل مر في دقائق.

لم تكن بالنسبة لها مجرد تذكرة بل كانت رمزا لكل تضحياتها وثمرة كفاحها المرير طيلة سنوات عجاف.

تعليقات