تونس | عزيزة
علياني
الأسرة هي النواة الاجتماعية الأولى المسؤولة على تربية الأطفال وعلى تكوينهم
العقلي والنفسي، وهي المؤسسة الأم التي يترعرع فيها الطفل ويتغذى على طاقاتها المترتبة
عن التفاعل بين عناصرها. لذلك فإن الحديث عن طفل سليم يحتاج إلى نشأة سليمة في محيط
أسري متوازن وملائم يسوده الانسجام والتوافق بين جميع أفراد العائلة عامة وبين الوالدين
على وجه الخصوص، باعتبار أن مرحلة الطفولة هي أكثر مرحلة عمرية حساسة في حياة الإنسان
وما يزرع فيها سيثمر حتما وسيكون الحصاد مجتمعا بأكمله.
في هذا العالم، لا يشترك جميع الأطفال في نفس الظروف المعيشية، ولا ينشؤون
في بيئات متشابهة ومتطابقة المواصفات، ولا يمرون بنفس التجارب الحياتية، فهناك من يولد
في بيئة متوازنة ويترعرع في محيط تتوفر فيه كل أسباب الرفاهية المادية والنفسية، ويتشبع
بقيم سليمة تساهم في بناء شخصيته على أسس صلبة ومتينة، وهناك من يجد نفسه في مواجهة
مباشرة مع بعض المشاكل الأسرية الخارجة عن نطاقه، فيتحمل جميع تبعاتها ونتائجها، وتقع
على عاتقه جميع الأضرار النفسية والعقلية وحتى الجسدية، باعتباره الحلقة الأضعف في
الأسرة.
في مرحلة الطفولة، يستهلك الطفل كل ما يعرض أمامه من مشاهد ومن أصوات، ويمتص
جميع الطاقات التي تملأ محيطه، حيث أن الإنسان يولد بفطرة سليمة نقية خالية من الشوائب،
وبتدخل من عدة عوامل خارجية تؤثر على كيانه وتنصهر مع تركيبته الذاتية الفطرية، تولد
شخصية جديدة لها خصوصيات غير ثابتة وقابلة للانصهار مع عوامل أخرى.
تتلخص أغلب مشاكل الطفل في مفهوم التفكك الأسري الذي يشتمل على العديد من
المفاهيم الفرعية والمختلفة من حيث الأسباب، لكنها تشترك في نتائجها وفي انعكاساتها
السلبية على الطفل. فتتدرج مراحل التفكك وتأخذ منحى تصاعديا تصعيديا بدءا بأجواء مشحونة
ومتوترة، مروراً ببعض المشادات الكلامية، والنقاشات المحتدمة بين الوالدين وقد تتطور
تلك المواجهات إلى عنف لفظي وجسدي يمارسه أحد الطرفين على الآخر أو يكون عنفا متبادلا،
وصولا إلى قطيعة روحية بينهما بسبب تلك التراكمات، ومن ثم تأتي مرحلة الانفصال النهائي،
إلا أن بعض المشاكل قد لا تنتهي بقرار الطلاق وتتواصل إلى ما بعد ذلك، وتستمر لسنوات
عدة. فيعيش الطفل تلك المشاحنات والتشنجات بين الوالدين بأدق تفاصيلها ويتفاعل معها،
وتتصدر قائمة اهتماماته ومشاغله، إلى أن يطغى تأثيرها على حياته.
يرى البعض أن التعايش مع المشاكل
والتأقلم معها أفضل من القطيعة والانفصال، ويرى البعض الآخر أن الطلاق هو الحل لوضع
نهاية لتلك المشاكل التي قد تؤدي إلى نتائج كارثية إن تواصلت، لكن تبقى تلك الرؤى مجرد
وجهات نظر تخطئ وتصيب وفيها من الصواب الكثير اذا ما تعلق الأمر بالزوجين فقط، لكنها
في كلتا الحالتين، لا تراعي مصلحة الطفل بصفته عنصرا مشتركا بين طرفي الخلاف، حيث أثبتت
الدراسات أن أغلب الأطفال الذين يعيشون في أجواء أسرية متصدعة ومشحونة، يعانون من مشاكل
نفسية مختلفة ومعقدة تنعكس سلبا على تصرفاتهم وسلوكاتهم داخل محيطهم الاجتماعي والمدرسي.
فيكتسب بعضهم سلوكات عدائية تجاه أنفسهم من خلال كره الذات والشعور بعدم الرضاء تجاه
كل ما يصدر عنها من فعل أو قول. فيتطور ذلك السلوك وينتقل من مرحلة جلد الذات وكسرها
معنويا إلى مرحلة التطبيق الملموس المتمثل في العنف المادي المسلط على الجسد، وربما
يصل الأمر إلى الانتحار لا قدر الله. كما يمكن أن يكتسب الطفل سلوكات عدائية تجاه الآخرين
من خلال ممارسة العنف اللفظي والمادي عليهم والتقليل من شأن الغير بهدف اشباع النقص
الداخلي وتعويض الفراغ المعنوي لديه.
يتأثر الطفل بمحيطه الأسري المهتز ويتبنى جميع الممارسات السيئة التي يراها
والمتكررة أمامه بشكل مستمر، حتى تصبح جزءا من شخصيته، فينحرف عن مساره الطبيعي كطفل.
هذا ويعمد بعض الأطفال إلى الانطواء والتقوقع على أنفسهم، ومن ثم يخترعون عالما خاصا
بهم وحياة مثالية خالية من المشاكل يحلمون بها، ويعيشونها كما لو كانت حقيقة، فتتحول
تلك التخيلات إلى كذبة تتجاوز الحد وتصبح سلوكا مرضيا يعيش به الطفل ويطال جميع علاقاته.
من حق الطفل أن ينعم بعائلة مستقرة تحتويه وتحميه كي ينشأ نشأة سليمة، إلا
أن ذلك الحق قد يسلب منه إذا ما اختل توازن الأسرة واهتزت أعمدتها وثقل سقف المشاكل
على أحد أطراف العلاقة أو على الإثنين معا، فيسقط العبء عليه.
صلاح الثمرة ينتج عن صلاح التربة وعن جودة البذرة المزروعة، وهذا ما ينطبق
على التركيبة المجتمعية التي يتحدد صلاحها من عدمه من خلال المؤسسة الأسرية. فالثمرة
تبدأ بطفل وتنتهي بجيل كامل يتولى بدوره صناعة أجيال أخرى وفق مواصفاته الذاتية.
الأمر لا يتعلق بفرد ولا ببعض الأفراد، بل أن المسألة أعمق من ذلك بكثير وأكبر من أن يتم حصرها، لذلك لابد أن نعمل على إصلاح المؤسسة الأسرية وتعزيز أسسها وقواعدها كي يستقيم المجتمع بأكمله.