📁 تدوينات جديدة

نقد رواية "الطريق الرابع" للروائية ناتالي الخوري غريب | ماريّا عبد النّور

نقد رواية "الطريق الرابع" للروائية ناتالي الخوري غريب | ماريّا عبد النّور

لبنان | ماريّا عبد النّور

بلغة فلسفية أدبية شاعرية، وتوجّه روحاني صوفي، خطّت الروائية اللبنانية ناتالي الخوري غريب روايتها "الطريق الرابع" الصادرة عن "دار نينوى" 2021، مُحمِّلةً فصولها السبعة أسئلة وجودية لا تنفّك شخصياتها الروائية عن طرحها، وسط تشرذم ذواتها، وتيهها في فضاءات الشكّ والألم والتعاسة، بحثًا عن سعادة مرجوّة وسلام داخلي مفقود.

شخصيات الرواية الستّ تستجدي الحب وسيلة لبلوغ السعادة، غير أنّ مطلبها دائمًا ما يخيب لمعرفتها أنّ السعادة الحقيقية نابعة من الذات لا من خارجها. لكن كيف السبيل إلى ذلك وهي تعيش صراعات داخلية لا متناهية؟

رؤية عامة

 عاجزًا وقف علم النفس أمام أبطال "الطريق الرابع" المتخبّطين بمشاكلهم الكيانية الوجودية، فكان التداوي بالفلسفة علاجهم الأنفع.

علاجٌ لم تتمكّن محدودية جدارن غرفة "دورة فنّ إدارة الحياة" من احتوائه، فكان السفر إلى بلدان العالم الواسع وجهة أبطال الرواية الستّة.

الغوص في التفاصيل

بصراع ناريدن الداخلي، استهلّت ناتالي الخوري غريب عمارتها السردية. صراع طبع أثره على شخصيات الرواية جميعها. فناريدن، أستاذة الفلسفة التي تتّصف بالعقلانية والمنطقية والحِّدّة، تعيش تأنيب الضمير وتشرذم دواخلها أمام هشاشتها العاطفية المتّأتية من حبّها لآدم، وهو الطبيب الجيني المتخصّص بالفلسفة، ومدير ميتم أطفال، وأب لفتاتين من زواج لم ينتهِ على الرغم من علاقته بناريدن.

"يعيش آدم ليخفي ألمه الساكن في أعماقه" (ص.28)، وعبثًا يهرب من براثن الماضي خوفًا من وقوعه على عتبات الذاكرة الأليمة بما فيها من تشوّه خارجي انعكس على داخليّته، فبات يعاني تقلّبات ضمنيّة لا أمل له بالانعتاق منها إلّا بالانتقال إلى عصر الإنسان الجديد.

في سياق الصراعات الداخلية نفسه، تبرز قصّة دانيال، الرسّام الموهوب الذي ما عاد يرى وجهه في مرآته، وبات يروم سلامًا داخليًا وهروبًا من التيه والذنب، ومن حبّه لديما الذي خضّ روحه وتركه مهشّمًا. أمّا ديما فهي مُصمِّمة أزياء موهوبة تعاني طيف الذلّ وأزمة ثقة، حتى أصبحت تنشد مصالحة فعلية مع هذا العالم.

صراع جديد يظهر على ساحة "الطريق الرابع" الروائية، وهو صراع القلب مع بيلّلا التي انسلخت عن الماضي لتملك المستقبل بطلب من زوجها، فخسرت كل شيء. أمّا المدرّب سامر، وهو موجِّه هذه المجموعة والمشرف على حالتها، فيعاني بدوره من تراكمات تمنعه من فهم ذاته.

العِلم مدماكًا سرديًا

 نقع في متن "الطريق الرابع" السردي على توجّه الروائية الفلسفي الصوفي، فكما تهدف الفلسفة إلى إعمال العقل عبر طرح أسئلة وجودية فكرية لا إجابات موحّدة عنها، هكذا تفعل رواية الغريب التي تقدّم جرعات متتالية من الأسئلة الفلسفية التي تؤرق بال الأفراد، سيّما أولئك الذين يتخبّطون في أمواج التيه ويعانون الكدمات الداخلية واختلال الاتّزان وضياع الهوية.

وبعيدًا من رومانسية الأدب وشاعرية الأحلام واجترار الموضوعات المتكرّرة، تمايزت الغريب بتشييد عمارتها الروائية على العِلم، الذي لم يأتِ عابر سبيل سردي، إنّما كان مدماكًا أساسيًا في خطابها. "لن يكون الإنسان عبدًا لأي إله، ولن يكون عبدًا للإنسان الذي أنتجه" (ص.214)، "سيعيش طويلًا دون خوف من مرض أو جينات مشوّهة" (ص.215). تناوُل الغريب لعصر ما بعد الإنسانية من ناحية فلسفية أخلاقية جعل روايتها تجنح عن المألوف وتحاكي هواجس العالم المعاصر.

العلاج بالفلسفة وتكثيف الاقتباسات والرموز

انطلاقًا من رغبة الأبطال بإعادة ترتيب العالم وفقًا لذواتهم المشتّتة، ولأنّ مشاكلهم في جذورها وجودية لا نفسية، ولأنهم يعيشون معاناة فكرية حقيقية مرتبطة بالهمّ اليومي على صعيد بناء حياتهم، كان لا بدَّ من علاج هذه المعضلات بالفلسفة. ولخوض هذا العلاج، عمدت الروائية إلى تحميل روايتها بأفكار الفلاسفة والكتّاب والأدباء والعلماء والفنّانين والمتديّنين، من كانط وهايدغر وكونديرا وغاليليو وكوبرنيكس ويونغ وسلفادور دالي وكارلوس زافون ونيتشه، وسواهم. وقد وضعت الغريب أفكارهم غير الوعظية على ألسن شخصياتها المثقّفة عبر اقتباسات كثيرة ورموز كثيفة نصل إلى فكّ شيفراتها في صفحات الرواية الأخيرة. "نستطيع الاستغناء عن الدين، لكن لا نستطيع الاستغناء عن الشركة والوفاء والحب. لا يمكننا الاستغناء عن الروحانية" (ص.183) "إن لم يكن الله موجودًا فكل شيء مباح" (ص.184)

مسْرَحة الرواية

تُمعن الروائية في تحويل كلماتها إلى صور حسيّة يلمسها القارئ عبر جعل الخطاب الروائي بصريًا من خلال تكثيف الوصف الذي تخطّى نقل الصور الخارجية للموصوفات، ليسبر أعماقها ويُبيّن دواخلها ومكامن ضعفها وقوّتها، مُظهرًا ما تأبى النفوس الاعتراف به.

لغة الروائية الوصفية المُشبعة بالتفاصيل المرئية لم تعد تظهر داخل السرد، إنّما صارت السرد نفسه. "يربط شعره المستريح المجعّد في جديلة واحدة أحيانًا، ويتركها أحيانًا أخرى مفتوحة للإمكانات المتاحة، كما حياته ولوحاته." (ص.31)

ولاكتمال المشاهد البصرية في مخيّلة القارئ، تجنح الغريب إلى إمداد وصفها بتفاصيل الألوان والأحجام والأشكال والأمكنة بما تحمله من أبعاد نفسية وفلسفية. "تكون اجتماعاتنا أكثر راحة في الغرفة الزرقاء، بإضاءتها الخافتة، وكراسيها الجلدية الزرقاء، التي تميل إلى السماوي، مع طرّاحاتها المزّهرة، كل منها ربيع يختلف عن الآخر." (ص.35)

ولاكتشاف دواخل الشخصيات، عمدت الروائية إلى تعدّد الأصوات الروائية والحوار، بحيث بات ممكنًا إظهار نفسيات الشخصيات واستشراف ردّات أفعالها من خلال معرفة طُرق تفكيرها ومكنوناتها الداخلية. "نحن في مصحّ كبير لا محالة! مكسور الأجنحة! مرضى الحب والروح، ولا دواء!" (ص.63)، "يبدو أنّ الوعي أزمتنا الوجودية الكبرى" (ص.28)، "أتينا نتخبّط بمآسينا ولم يخرج أي منّا من حفرته". (ص.63)

العبث سيّد الحياة

سرنا مع "أصدقاء البوح عن عمق الآلام القابعة في الذات" (ص.34) طوال 218 صفحة من الأسئلة الوجودية والأزمات المتتالية، في محاولة للملمة الإشارات الروائية وفكّ رموزها بُغية توقّع الخاتمة، إلّا أنّ نهاية "الطريق الرابع" جاءت مغايرة لكل التوقّعات، استنادًا لجدَّة الموضوع وتمايز طريقة معالجته.

تتخطّى ناتالي الخوري غريب في خاتمتها السائد لتستشرف المستقبل وتترك القارئ أمام سيل من الصدمات والأسئلة والشكوك التي لا تفارقه وإن فارق الرواية.

"الطريق الرابع" رواية فلسفية ما بعد حداثية، تتخطّى الإنسان لعصر ما بعد الإنسانية، مؤكّدة في كل موقف أنّ الحياة على مرّ مواقيتها، تبقى لعبة العبث.


تعليقات