📁 تدوينات جديدة

شكوى معلم / قصة: لحسن ملواني

شكوى معلم / قصة: لحسن ملواني
 لحسن ملواني / أديب مغربي 

ارتمى يوسف على الكرسي، فما شككت من كونه قد خرج من عمله منهكا.

قلت: قتلك الإنهاك يا مسكين، أعَمَلُك منهِك إلى هذا الحد؟

زفر زفرة، ونظر إلي نظرة مغلفة ببعض الأسى والغضب، ثم قال: كيف لا أخرج من عملي و يستبد بي الغيظ والحنق، ويتملكني الضنى والتعب؟  كيف لا أنهي عملي مكدودا جريحا أجر قدمَيَّ كي أصل إلى سيارتي؟ حتى إذا كنت في طريقي إلى منزلي أعادت علي ذاكرتي شريط الحنق والأسى: متعلمون أمامي مجردون من روح العمل، يلهيهم التافه من الكلام عن ثمرات الأقلام، يتبادلون أخبار الرياضة والأناقة وهم أبعد عن الرياضة والأناقة بُعد المغرب عن المشرق، يحفظون من العناوين والأحداث أردأها، ويرتدون من أصناف الملابس المزخرف المُلهي عن شمس الدرس، سبيل المرتجى، يمضغون العلك وليتهم يمضغون حكما و أشعارا وأفكارا، أريدهم نجوما وأقمارا ولا يزيدهم  حماسي وجدي وكدي إلا صدودا وثبورا، يتقدمون في اللهو، ويتراجعون عن المفيد، أحيانا ألومهم، وأحيانا أتشكك في نظرتي إليهم، وكأنهم خُلقوا لزمن غير هذا الزمن، ولمقرر غير هذا المقرر، لكني أجزم أن العلة فيهم، فالمقرر مفيد، به ما يثير ويجذب، وفيه من الفوائد نفائس الأفكار ومتعة الأنظار... أعود إلى منهجيتي فأغيرها مرات ومرات، وإذا العلة فيهم لا فيَّ... أعود إلى علوم التربية والنفس فلا أجد لعلتي دواء وشفاء، فأعود إليهم صبورا، أسألهم فلا يجيب إلا واحدة أو واحدة، أحاول ترضيتهم، فلا يزدادون إلا كسلا وخمولا، أحاول تهديدهم بألقاب وتشهر المذكرات الوزاية والإنذارات أمامي، فما ألبث حتى أعود إلى صبري ألتحفه وأمضي في درسي  قائلا: قم بعملك يا أستاذ واعتبر نفسك مسرحيا يبث رسائله التربوية النبيلة، فمن أراد أخذ، ومن لم يرد فلا عليك لؤمه وتوبيخه، ولن تهدي من تشاء... إلا أن الضمير يعود فيقهرني يؤنبني قائلا: مسؤوليتك أعظم من أن توجزها وفق هواك، اعتبر كل هذه الوجوه وجوها لأبنائك، فحاول وحاول وحاول... أستجيب للنداء أُوقِف الدرس كي أوجههم وأنصحهم، أحدثهم عن حياة العظماء، وعن قيمة الوقت والعمر، أقول لهم بأن العلم في الصغر كالنقش على الحجر، والعلم في الكبر كالنمش على المدر، ومن جد سيجد، ومن زرع سيحصد... ألمح على وجوه بعضهم قبولا وتفهما فأستبشر خيرا... أعود إلى الدرس المقرر، أنطق بالجملة الأولى وأسمع الجرس يقول " لقد انتهت الحصة يا أستاذ..." يجمع المتعلمون أدواتهم بمهارة وسرعة، ويهرعون يتدافعون ويندفعون للخروج، فيتبادر إلى ذهني أن خارج الفصل  ما يفضلونه وما يجذبهم جذبا، حتى إذا مررت بساحاتهم ألفيتهم يلعبون، ويتسابقون ولا ينتظرون أجرا ولا نقطة... يَضْحكون فأتألم، يصيحون فأغتاظ، يذهبون، ويؤوبون بلا هدف فأعود إلى نفسي، أعود إلى كتبي ومنهجياتي، أعزم على طرق غير المطروق وصولا إلى المطلوب المرموق.

قلت: لقد رأيتهم في الساحات، فلو رأيتهم في المنازل لرأيت عجبا، عيونهم ثابتة على التلفاز يتفرجون على رسوم متحركة وأفلام غربية غريبة لا يعرفون منها سوى الحركات والصراع والعراك ومراهم الوجنات.

قال: ذاك سر هبوط درجتهم في استيعاب ما يقال، فالجاهل باللغة فاقد لمفاتيح العلم والأدب. رزقك الله بأطفال فصحاء يتقنون القراءة والقول والكتابة.

قلت: آمين. وأظنك الآن قد استعدت بعض الانتعاش، فقد غادرت قسمك وعبرت عن منغصاتك وقريبا ستجد حلا لمعضلتك، كن صبورا وتحمل فعملك نبيل، وأنت بمثابة الطبيب للعليل، وتعلم كيف تواجه تلاميذك بالابتسام بدل الانتقام... يقول شاعر:

والهم يخترم الجســــــــــــــم نحـافة  *  ويشيب ناصية الغلام ويهــــــرم

إذا اشتملت على اليأس القلوب  *  وضاق بما به الصـــــــــــدر الرحيب

وأوطـنت المكــــــــاره واطمـــــــأنت  *  وأرسلت في أماكنها الخطـــوب

ولــــم تر لانكــشـــــــــاف الضر نفعا  *  ومـــــــــــــا أجـــــــــــدى بحيلته الأريب

أتاك على قنـــــــــــــــــوط منك غوث  *  يمــــن بــــــه اللطيف المستجيب

تراءى لي بعض الانفراج على أسارير يوسف وهو ينهض ببعض الخفة عن كرسيه كي يعود كل منا إلى بيته على موعد مع تصحيحات وجذاذات وتفكير عميق في تجاوز العقبات والثغرات.
تعليقات