📁 تدوينات جديدة

فرس ناطق (الجزء 1) | بقلم: عبد الإله بوزين

 عبد الإله بوزين/ المغرب

حين ارتوى ماء باردا عذبا، حدثني عن فصاحة العرب وقال: 

في البدء، كان الرجل يقول الكلام في مقطوعة للتعبير عما يشعر به، لكن هل أتاك حديث سهم أذرف الشعر الغزير؟ 

كما تعرف أيها الساقي لا يخلو كل زمان من الجوع، والقحط، والأمراض، والحروب. وكان لابد للقبائل أن تعطي الجزية لمن يحكمها، هكذا كانت حياة العرب في العصر الجاهلي، لا تحط الرحال في مكان حتى تسير إلى غيره رغبة في الماء أو هروبا من الحكماء. كل القبائل كانت تمتثل لحاكمها، إلا قبيلة "تغلب" و"بكر" اللتان كانتا من أشهر قبائل العرب وأعزها أنفا. قبيلتان تجمعهما العمومة ويزخران بالفرسان والشعراء، تغلب العرب العدنانيين على العرب القحطانيين بزعامة كليب الذي صار فيما بعد ملك العرب، حين قتلوا التبع اليماني وهزموا جيشه في جبل خزاز. 

نهى الملك أن تقترب البعير من إبله، لكن البسوس أدخلتهم في اختبال كبير. ناقة تافهة أشعلت حربا بين أبناء العمومة. هكذا وضع كليب سهمه في ضرع الناقة فأورث ذلك غلا في نفس جساس ليضع سنان رمحه في ظهر الملك. 

حين سمع المهلهل بمقتل أخيه، وقف على قبره وأنشد "نعى النعاة كليبا لي فقلت لهم، مادَتْ بنا الأرض أم مادتْ رواسيها.. ليت السماء على من تحتها وقعت، وحالت الأرض فانجابت بمن فيها". فامتطى صهوتي وشد لجامي وأقسم أن يمتنع عن الخمر والنساء حتى يقتل بكل قطرة من دم أخيه ألف فارس من بكر. هكذا تأسس الشعر في غضون هاته الواقعة التي دامت أربعين عاما.

أظنك تذكر جبل خزاز والقبيلتين أيها الساقي. لقد تفاخر عمرو بن كلثوم بواقعة هذا الجبل وأنشد وقال: "ونحن غداة أوقد في خزاز، رفدنا فوق رفد الرافدينا... وكنا الأيمنون إذا التقينا، وكان الأيسرون بنو أبينا.. فصالوا صولة فيمن يليهم، وصلنا صولة فيمن يلينا.. فآبوا بالنهاب وبالسَّبايا، وأبنا بالملوك مصفدينا". كما تفاخر نفس الشاعر في معلقته الشهيرة حين قتل عمرو بن هند ملك الحيرة، فأنشد وقال: "ألا لا يجهلن أحد علينا، فنجهل فوق جهل الجاهلينا.. بأي مشيئة عمرو بن هند، نكون لقيْلكم فيها قطينا...فهل حدثت في جشم بن بكر، بنقص في خطوب الأولينا.. ورثنا مجد علقمة بن سيف، أباح لنا حصون المجد دينا.. ورثت مهلهلا والخير منه زهيرًا نعم ذخْر الذاخرين، وعتّابا وكلثوما جميعا بهم نلنا تراث الأكرمين... ومنَّا قبله الساعي كليب فأي المجد إلا قد ولينا". 

هكذا تأرجح الشعر بين الفخر والرثاء من هنا وهناك، لكن هناك من ذهب أبعد من ذلك واستعمل فصاحته وأشعاره في الهجاء. من أشهر الشعراء في هذا الغرض امرؤ القيس والأخطل والحطيئة، أما الأول فيلقب بأبي الشعراء وقد أهجا شعراء الجاهلية برمتهم، ومن أشهر ما قال في الهجاء: "ألا قبح الله البراجم كلها، وجدع يربوعا وعفر دارما، وآثر بالملحاة آل مجاشع، رقاب إماء يقتنين المفارما". أما الأخطل، فمن أشهر هجائه: "قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم قالوا لأمهم بولي على النار، فتمسك البول بخلا أن تجود به وما تجود لهم إلا بمقدار". أما الثالث الأخير فلم يسلم أحد من لسانه، فقد هجا الناس جميعا حتى إنه هجا أمه وأباه وحتى نفسه. يقال إنه ذات يوم لم يجد أحدا ليسبه ويذكر معايبه، وحين وقف على بركة ماء ظهر له وجهه فاستقبح هيئته فهجا نفسه قائلا: "أبت شفتاي اليوم إلا تكلمًا، بسوء فما أدري لمن أنا قائله.. أرى لي وجها شوه الله خلقه، فقبح من وجه وقبح حامله". 

ياه أيها الساقي! كم من دلو يكفيك لتروي عطشي كي أجد تميمة للبوح؟ كل ما أخبرتك عن شعراء الجاهلية ليس إلا بالنزر القليل. لم أحدثك عن سوق عكاظ الذي كان يعتبر منبرًا ثقافيًا إعلاميًا يجتمع فيه شيوخ القبائل لعقد الاتفاقيات، وتبادل الأسرى، وكذلك لسماع الأشعار أمثال الفارس والشاعر عنترة بن شداد، أو الحارث بن حلزة، أو النابغة الذبياني، أو...، لكن سأحدثك عن أشهر الشعراء الذين أدركهم الإسلام، أمثال الخنساء، وحسان بن ثابت المختص في المدح والملقب بشاعر الرسول، وزهير بن أبي سلمى صاحب المعلقة الرابعة، التي جاء بها في غرض مدح هرم بن سنان والحارث بن عوف وذلك لإصلاح بين قبيلتي عبس وذبيان وحقن الدماء بعد حرب داحس والغبراء، ومطلعها: "أمن أم أوفى دمنة لم تكلم، بحومانة الدراج فالمتثلم". لم يسلم الشعر من النحل، والانتحال، والوضع، فقد كان الرجل ينسب شعر شاعر لشاعر آخر، ثم إنه كان يقوم الرجل فيدعي شعر الغير لنفسه، كما أنه ينظم الرجل الشعر وينسبه لغيره بغرض القتل أو السوء. حتى قام زهير بن أبي سلمى فأسقط كل هذا وأرجع القصائد لأصحابها. 

كانت العرب قديماً تتقي فتنة شاعر، فما نزل في قوم ومدحهم إلا ورفع قيمتهم، وإذا هجا قبيلة وضعها وجعلها ذليلة لا يُؤبه لها ولا بها عند العرب. وقد سمع الحطيئة بقصة بنو حنظلة بن عوف بن كعب يُقال لهم بنو أنف الناقة يُسبّون بهذا الاسم في الجاهلية، فنزل فيهم وقال: "قوم هم الأنف والأذناب غيرهم.. ومن يُسوّي بأنف الناقة الذنبا." وبعد ما قال الحطيئة فيهم ما قال من مدح، صار هذا الاسم مدعاة للفخر عندهم. 

لم أحدثك عن هذا عبثاً، بل حدثتك عنه لأنك ولد شجاع اجتمع مع فرس المهلهل في منهل الشعر، ولأن العرب كانت لا تهنئ إلا بثلاث، وهم: "فرس تُنتج، وولد يُولد، وشاعر ينبغ"، فقد ارتأيت أن أخبرك بموروث العرب الثقافي، ولم يكن يوماً يُقال الشعر هكذا بلا سبب، بل كان ناتجاً عن الأحداث السياسية والاجتماعية بغرض الفخر أو الرثاء أو المدح أو الهجاء أو الغزل. ومن أشهر شعراء هذا الأخير عنترة بن شداد، وامرؤ القيس، والأعشى، وطرفة بن العبد، ولن أجد قصيدة أمتع وأروع في الغزل أكثر من قصيدة امرؤ القيس حين وقف يسأل عن أطلال بين الجدية والجبل فأنشد وقال بعد أن تبين له أنها أنقاض منزل حبيبته سلمى: "لها مقلة لو أنها نظرت بها، إلى راهب قد صام لله وابتَهَل.. لأصبح مفتوناً معنى بحبها، كأن لم يصم لله يوماً ولم يصل." 

أيها الساقي، لقد سقيتني ماءً بارداً عذباً، وسقيتك من الأشعار ما لم يخبرك به أحد. إن كنت صدقتني في كل ما قلت سأضيف إلى ما قلت، أن الشعر فقد قيمته في صدر الإسلام وذلك لاهتمام العرب بدينهم الجديد، فضاع الكثير من الأشعار حتى أنه يُقال أن معلقة عمرو بن كلثوم تعدت ألف بيت، وضاع منها الكثير، لكن سأقدم لك نصيحة على طبق من ذهب: "احفظ الشعر لتصير أفصح الناس."

تعليقات