📁 تدوينات جديدة

قراءة تحليلية لقصة "بالعرض البطئ" للمؤلفة: سلوى إدريس والي | بقلم وفاء داري

قراءة تحليلية لقصة "بالعرض البطئ" للمؤلفة: سلوى إدريس والي | بقلم وفاء داري

وفاء داري | كاتبة وباحثة فلسطينية 

قصة "بالعرض البطيء" للأديبة (سلوى إدريس والي) عبارة عن نص أدبي سردي يقع في عدة صفحات، وسنكون ضمن قراءة تحليلية نقدية تتميز بالفلسفة الوجودية، حيث يحمل قضية إنسانية مجتمعية منتشرة تقريبًا في أغلب المجتمعات العربية والغربية على حد سواء. وإذا تمعّنا في النص نجد تركيز الكاتبة سلوى إدريس على الوجود البشري والحرية والموت وتحمّل المعاناة والألم، بل والتأقلم معهما، إذ تلمح في ثنايا النص السردي أن الموت جزء من الحياة، وأن الحياة رحلة شاقة، على الإنسان أن يوجّهها ويتقبلها ويتأقلم معها، وبكلمات أدق؛ الوجود البشري يتميز بالمعاناة وأن الإنسان يجب أن يتعامل مع كافة التحديات ومواجهتها لأجل الاستمرار في الحياة.

لقد عنونت الأديبة القصة بعنوان لافت للانتباه، وللقارئ أن يتخيل الكثير من المعاني التي يتضمنها. نستنتج من النص وعنوانه أن الكاتبة تناولت مرحلة من حياة الإنسان والتي تتمثل هنا في شريحة مجتمعية شبه مهمشة وهي (المسنين) وهي المرحلة المتسمة بالكثير من الأسى والحزن والألم والوحدة، وأن الإنسان غالباً ما تزدحم في صدره بواعث الإحساس العميق بمدى المرارة والخيبة والأسى التي انطوت عليها نفسه حينما يجد أنه وحيد، وأحلامه وآماله وحياته وراحته تصطدم بجدار سميك من آلام الواقع.

فهي تتحدث بلسان بطلتها وهي ذاتها الراوية لسرد القصة كسيرة ذاتية، وهي عجوز طاعنة في السن في التسعينات من عمرها، حين أشار السرد في النص "أتممت عقدي التاسع"، وهي وحيدة ولها عدة أبناء، غادرها أصغرهم لشق طريق مستقبله منذ أعوام طويلة، ومنذ مغادرته لم يسأل أو يتواصل معها أحدهم أو غيرهم. وقد حال تقدم عمرها وثقل حركتها من توديعه بتوصيله لباب البيت عند مغادرته مكتفية بتوديعه على كرسيها بسبب تدهور حالتها الصحية. وكما حال أغلب المسنين مع أبنائهم حين تأخذ الأبناء مسارات الحياة في معتركاتها تاركين خلفهم الآباء يقاسمون الوحدة كما يقاسمون الخبز، ليقوموا هم بدور آباء لأبنائهم متناسين آباءهم.

تقول بلسان حالها في استرجاع لشريط حياتها أنها كانت تعارك الحياة في تربية أولادها، وهذا ما ورد على لسان الراوية في القصة: "كنت فقط منهمكة في سقي بعض البذور..." بدلالة أنها كانت منهمكة في تربية أولادها التي شبهتهم ببذور كانت تقوم على خدمتهم وتربيتهم ورعايتهم، كما نقوم بسقاية البذور في تعبير يشير إلى أن الماء هو شريان الحياة، بتوظيف تشبيه بلاغي بديع عن دور الأم، وهي الشريان النابض الذي تقوم عليه الأسرة والبيت، بل والمجتمع بأكمله. وهنا تتجلى جدلية الحياة والموت، إذ شبهت الراوية (المسنة) صحتها ومعاناتها من التعب والآلام والترقب والوحدة التي تتقاسم تفاصيل يومها "بالموت المفعم بالحياة" في تلميح هنا على أن الوجود البشري هو مجرد وجود، وأن الإنسان يولد بلا معنى، وأنه عليه أن يبحث عن هذا المعنى في الحياة ذاتها، حيث أدركت أنها تحب الحياة. ورغم معاناتها بتقدم العمر، تصر الراوية المسنة على أنها لن تموت قبل موعد موتها، ولن تغتال نبض الحياة داخلها: "لماذا علينا أن نموت قبل خروج الروح؟" في إشارة واضحة إلى حب الحياة، وتفاؤلها رغم وحدتها ومعاندة صحتها لها بسبب عمرها الكبير، وأن الحرية هي القدرة على الاختيار والتحكم في مصير الإنسان، وهي صاحبة قرار ومسؤولية، حيث قررت أن تزيح وشاح اليأس عن كتفها ولو أُجبرت أن تعيش مثل سلحفاة، (السلحفاة) تعبير مفعم بالتشابه في نمط الحياة والحركة، مفهومًا ضمنيًا حين اختارت هذا التشبيه بقولها: "خلعتُ ثوبَ الأحزان، وقررت أن أعيش مثل السلحفاة النشيطة جدًا..." وفي تشارك في الوصف قصدته الراوية في دلالة على تشاركها بالبطء في الحركة مع السلحفاة، وكذلك في بيتها وبيت السلحفاة، قوقعة السلحفاة بيتها الحجري مشيرة إليه بهذا الوصف: "لولا الأحجار التي تكومت على ظهرها..." هل أيضًا أرادت الإشارة لتلك الأحجار وكأنها الماضي والذكريات والسنوات التي تراكمت مع تقدم العم؟ أم هل هي التجارب والصعوبات والتحديات التي حملتها على ظهرها على مر السنين؟ كلاهما على ظهورهن! بفتح باب التأويل هنا لخيال القارئ. مشي بطيء يتقسمانه أيضًا حين تطرقت لذلك قائلة: "خرجتُ من غرفة النوم متجهة إلى غرفة المعيشة… قدماي ثقيلتان، أرفع واحدة وأجر الأخرى خلفها..."، تنجح في الوصول للنافذة، نافذه الحياة والأمل، روتينها اليومي الذي تتوق له، ثم تسترجع ذاكرتها بشريط يدور للخلف يستفز ذاكرتها المتأهبة دائمًا لعرض ذكريات الماضي وأيام الصبا. وعند وصولها وتأملها في النافذة، نافذة الذكريات تكتشف أن غياب شبابها وصحتها كغياب خيوط الشمس، فلا تملك غير الذكريات، تعود لغرفتها بذات المشقة التي أتت بها وببطء السلحفاة ذاته، تعود للماضي تستذكر عبر نافذة أخرى بعضًا من تلك الذكريات، وهي ألبوم الصور والذي شبهتهُ بأنه " كتاب مقدس" و"إكسير الحياة" في رحلة يومية معه، (رحلة الحياة) لمراجعة الذكريات، تتلاطم مشاعرها وتتعارك ابتسامتها مع دمعتها في ملحمة عاطفية لا ينتصر أحد فيها في النهاية بفلسفة وجودية، ثم تقفل صندوق الذكريات محاولة عقد هدنة في حرب ملحمتها الداخلية، تستذكر أطياف الأحبة الراحلين معاتبة تأخرها عنهم. يأتي الليل كابوسًا، تصف وحدتها في كبرها الطاعن وكوابيس تراودها، وما تلاقيه في يومها من آلام وذكريات، أو أمور لا تروق لها. فتصبر بتشبيه بديع للكاتبة سلوى إدريس على لسان الراوية: "أعجن آدميتي بماء الصبر..." وهي تنتظر موعد رحيلها، بإيمان منها بأن الموت هو جزء من الحياة، يجب على الإنسان أن يواجهه ويتقبله برحابة صدر ويتعلم منه، ويجب عليه أن يبحث عنه في الحياة، وأن يجد ما يعطيه القوة والشجاعة والإيمان في مواجهة الحياة وكذلك الموت.

هنا نبدأ عمق التحليل للنصّ الأدبي:

المكان: البيت في بنية السرد هو مكان بيت المسنة.

الزمان: لم يُحدد، إذ توحي القصة أنها ربما تكون في أي زمان ومكان، لمعاصرة فحواها من الزمن البعيد في الماضي حتى الحاضر وربما المستقبل.

الشخصيات: شخصية سردية محورية متفردة إذ خلا النص الأدبي من الحوار في سرد سيرة ذاتية مجهولة الاسم والهوية، ربما لغاية في نفس الكاتبة أنها شخصية مبهمة، لربما تكون أي مسن/ة.

الشخصية المحورية: (المسنة) والراوية في السرد في ذات الوقت، من هنا يتضح للقارئ أننا قد نكون أمام سيرة ذاتية، اعتمد فيها السارد على ضمير المتكلم كي يخاطب به مشاعر القارئ، فيتأثر بالأحداث ومجرياتها داخل بنية السرد، بل ويتفاعل معها.

المفهوم الجماعي: وهو ما يدفعنا للقول أن أغلب الأفراد أو هي شريحة مجتمعية واسعة النطاق وهي (المسنين) تجد نفسها ضمن سرد النص وبين سطورها، عندها يجد الفرد نفسه في عمق النتاج الأدبي الرسمي بحيث يخترق المفهوم الرسمي للنص حيث استقرت الكاتبة سلوى إدريس على لسان الراوية ( المسنة) والحالة الشخصية، وهي من أهم الأسباب التي تُحرر النص فتجعلنا نجد فيه ذاتنا / مسنينا. مما يجعل النص حاضرًا وتطيل به عمر النص الأدبي.

السرد الأدبي للنص: والحقيقة أنها بالفعل أحداث مؤثرة، لسيرة ذاتية عبر وصف الكاتبة بإبداع سردي أدبي بليغ مرت به الشخصية الرئيسة في الرواية (المسنة)، أحداث يعيشها القارئ وغير القارئ للقصة على مستوى العالم العربي والغربي بل والعالمي، فالقصة تعكس بل وتجسد مدى الواقع في جدلية إهمال الأهل لذويهم المسنين، لقد أتقنت أنامل الكاتبة المغربية بريشة الإبداع وألوان التمكّن في تعرية الواقع بمعايشته، حدث قد يبدو عاديًا لموقف قد يتكرر كثيرًا، ولكن الرسالة أعمق بكثير، رسالة إنسانية وتكاد تكون عقائدية دينية، في استحضار الوصايا على بر الوالدين وصلة الأرحام والتي حثت عليها تعاليمنا الإسلاميّة، وذُكرت في القرآن الكريم، وذُكرت فيها كثير من الأحاديث النبوية الشريفة، في زمن تسارعت فيه عجلة الحياة، حيث أخذتنا أجهزة التواصل الاجتماعي من التواصل الشخصي بيننا، وخاصة المسنين الذين بينهم وبين الإلكترونيات فجوة كبيرة، فأخذنا الاستخفاف والاستهتار في بر الوالدين وصلة الرحم، وهي دلالة رمزية تشير بها الكاتبة إلى أن تلك المسنة ما هي إلا مثلٌ لتلك النماذج المنتشر إهمالها في المجتمع، هذا النموذج للشخصية المحورية بالقصة، وغياب الاهتمام بها؛ هو نموذج حي وجوهري، وليس شكليًا، وهي الرسالة المضمرة التي ترسلها القصة للقارئ؛ لذلك أقول:

النزعة الفلسفية الوجودية التي تجلت في قصة (بالعرض البطيء) ومجريات الأحداث بأنامل إبداع الكاتبة سلوى إدريس تتطرق في بواطنها إلى النزعة الفلسفية الوجودية والتي تؤثر في ذهن المتلقي/القارئ. ومن جانب آخر ومما يلفت انتباه القارئ الألم والمعاناة لهذه الشريحة المجتمعية المهمة والمهمشة، إن البيت المذكور تفاصيله مجهول الهوية، وكذلك الشخصية المحورية الساردة مجهولة الاسم والهوية، بقصد وتعمد من الكاتبة لمناسبتها وواقعيتها في المجتمع في أي مكان وأي زمان وتحت أي اسم وهوية، فهو المكان المحرك للأحداث في البنية السردية للقصة، بما تحمله من أحداث آنية وسابقة، استخدمتها الكاتبة بفن تقنية الاسترجاع الزمني للذكريات، كانت هي المُحرك الرئيس للأحداث، بل والدافع نحو الأمام في مجمل النص. وتأتي قيمة هذه القصة في أنها تجسد معاناة المسنين في سائر المجتمعات والتأثر في النزعة الفلسفية الوجودية.

حقيقةً النص يتمتع بلغة فصحى راقية وبليغة، وفلسفة وجودية عميقة وقضية أخلاقية واجتماعية مهمة، تجلت في وصف الأماكن والأشخاص وإن كانت محدودة، وتناولت المشاعر بصورة تراوحت ما بين الامتعاض والمعاناة تارة، والتعاطف تارة أخرى، بما يتناسب مع الأحداث وشخصية القصة.

إنها حقًا قصة ممتعة سهلة غير معقدة وبليغة المعنى والمغزى بذات الوقت خُطت بأنامل مبدعة لهدف سامٍ.


تعليقات