نسرين الطويل | الولايات المتحدة الأمريكية
في إحدى زياراتي لدار المسنين من خلال عملي، وبينما كنت أقترب من البوابات الحديدية لدار كبار السن، كان يتحرك بداخلي مزيج غريب من المشاعر، فالهواء مليء بقصص لا توصف، وكل مقيم يحمل ثقل تجارب العمر. إنه مكان يردد فيه إيقاع الخطى سمفونية الحنين، وتتنفس الجدران التنهدات الجماعية للذكريات التي تأبى أن تتلاشى.
بينما أتجول في القاعات، يغلفني الجو مثل عناق حزين. تحمل الغرف أصداء ضحكات وهمسات أحلام وجدت عزاءها في السنوات المشتركة. إنه ملاذ للعزلة، حيث يتنقل السكان في متاهة ذكرياتهم، ويتتبعون الخطوات عبر ممرات الماضي الذي ينزلق أكثر إلى أعماق عقولهم مع مرور كل يوم.
يعد المركز المجتمعي بمثابة مفارقة، ملاذ للراحة والتأمل، ولكنه أيضًا مخزن للحزن الذي لا يوصف والغضب المشتعل. إنه مفترق طرق حيث نسيج الحياة منسوج بخيوط الفرح ووجع القلب. كل غرفة، هي كون بحد ذاته، تحتوي على حكايات من الانتصارات والمحن، والتي يتردد صداها في صرير ألواح الأرضية القديمة.
في الفضاءات الجماعية، يتجمع السكان مثل الأجرام السماوية في مداراتها النهائية. ويمر بينهما تفاهم صامت، لغة تحكيها نظرات تجتاز هوة الكلمات غير المنطوقة. الهواء مثقل برائحة القبول الحلوة والمرة، رائحة باقية في الأماكن التي كانت الأحلام تحلق فيها، وهناك رأيت رجلا مقعدا على كرسي متحرك، عندها تقدمت إليه معرفة بنفسي، وأني موجودة هنا لأستمع إليه. حاولت مرارا أن أحصل على إجابة شافية لأسئلتي، إلا أنه في كل مرة كان يميل بوجهه، مرة ذات اليمين ومرة ذات الشمال، من دون أن يجيبني، وكم باءت محاولاتي بالفشل في أن أخرجه من صمته الدفين، ربما كانت أسئلته التي سألها لنفسه ولم يجد جوابا عليها كافية ألا يجيبني، عن الزوجة التي لم تعد في هذه الحياة، عن أبنائه وبناته الذين ألقوه في مجاهيل للنسيان وما عادوا ليسألوا عنه بزيارة ولو مرة في الشهر أو حتى في عيد الشكر، لنشكر الله حتى أننا اجتمعنا مرة في العام... عدت أدراجي من دون كلمة واحدة يعبر فيها عما يجول في صدره وعالمه الذي أضحى صمتا قاتلا، وكأنه يوما ما كان في حياته بيت ولا زوجة ولا أبناء، لقد أضحى ابناً للصمت يغلفه ومجهولا في عالم النسيان، كان علي أن أعود لوحدتي وقد التصق بي صمت وحدته فأصبحتُ بعضاً من صمته، فكانت كلماتي هذه حاضرة في عالم أولئك المنسيين.عندما نعود لنرى الورق الأصفر للأشجار يسقط مرة ثانية تكون الأيام بذاك السقوط قد أسقطت خريفا آخر من عمرنا، ويكون قد رحل من قضى إلى الله، وحتى ذاك اليوم نكون بصراعنا مع أنفسنا في تلك الحياة مستمرة عن حرب لا تنتهي، ولازالت محاولاتنا الجادة في إثبات الذات، هل كانت تلك المحاولات إثبات ما لا يثبت، لازال ذاك السقوط باصفرار لذاك العمر الراحل، هو سقوط لا ينتهي. إلا أنه أجمل ما في ذاك السقوط أنه يعيدنا إلى أيام هاربة منا، إلى بيت الأهل القديم إلى الأب والأم والأخوة والأخوات، إلى تلك المدفأة القديمة باتقادها، فعسى ذاك اللهب الذي كان يدفئنا ويسري دفؤُه في قلوبنا أن يلملم ما تشتت منا وتبعثر في غربة للدنيا ما عدنا بعدها لنلتقي، نحتاج عندها لأصوات القبلات تعلن حربا على الكره وحتى تسحق تحت أقدامنا ما علق بماضينا من أحزان، نحتاج أن نعود بصدى عمرنا الراحل إلى صدر الأم التي كانت تطوينا تحت جناحيها، ولا أحد غير الأم يلملم خارطة حياتنا المقطعة وقد كان قلبها عاصمة لكل الأوطان. الحنين للوطن في الغربة ندم وذاك الحب الذي ضاع ندم، أقسى ما نكتشفه في الوقت الضائع أننا كنا بضياع واغتراب نطارد حلما ليس حلمنا كمن كان يلهث وراء سراب لدخان مسافر، لأي عمر أجل ولكل أجل كتاب، ونحن لسنا أكثر من سطر في كتاب تأتي النقطة لتضع نهايةً لأحلامنا حلوةً كانت أو مرة، هو أثر نتركه على جدران الحياة ليقال من بعد رحيلنا من هنا مر فلان. إلا أنه أقسى ما في المرحلة المتأخرة من العمر الضائع نكتشف حيث لا ينفع الندم أن الأمر الوحيد الذي سوف نندم عليه، ذاك العمر الذي افتقدناه وضاع في الندم الذي كنا نبكي فيه ونتحسر، حتى في ندمنا على ما ندمنا عليه فإننا نندم. بالله أي ندم هذا؟ كنت أعتقد أنني مع تلك النقطة التي وضعتها في آخر السطر منذ قليل أني أرَّخت لتلك الحادثة لهذا اليوم التي قادتني إلى صمتٍ أكبر من صمت ذاك المقعد على كرسي كان يحس بذاك الهرم المنسي أكثر من أبنائه الذين رحلوا وألقوه حتى خارج هامش الحياة الذي رسموه يوم تركوه في مقبرة النسيان تلك وقد صار أباهم كأنه كتب بماء، سؤال سألته لنفسي ماذا لو كنت أنا من جلس على ذاك الكرسي؟ ماذا لو كنتم أنتم معي على ذاك الكرسي؟ صدقوني، فعند النسيان على ذاك الكرسي ومع ذاك الهجر والنكران والنسيان، يصبح ذاك الكرسي متسعا للجميع، لنا نفس نظراته الصامتة، ومن دون أي يكون لنا من جواب، عرفت عندما تركته وعدت إلى مكتبي أن تلك الأوراق الصفراء ما كانت تسقط، نحن الذين كنا نسقط، بهجرنا لآبائنا وأمهاتنا يوم تركناهم بنسيان على ذاك الكرسي الذي ما عاد متحركا، كان علينا وعليكم وعلى أولئك الذين أنكروا الأب أن يدفعوا أباهم على ذاك الكرسي بأيديهم، لا أن يركلوا ذاك المقعد بنسيان. فشكر الله ليس له يوم واحد في العام لنلتقي فيه، حتى لا يكفيه ثلاث مئة وخمس وستين يوما في العام، والحاضر يعلم من غاب.