📁 تدوينات جديدة

المومياوات المصرية تكشف أسرارها | لطيفة محمد حسيب القاضي

المومياوات المصرية تكشف أسرارها | لطيفة محمد حسيب القاضي

اليمن | لطيفة محمد حسيب القاضي 

إن التحنيط هو أحد مظاهر التقدم ليدلُّ العالم على ما بلغته العلوم المصرية من تطوُّر، وهذا التطوُّر الذي ساعد على حفظِ كثيرٍ من الجثثِ سالمة لآلاف السنين. الأمر الذي بهر كثيرًا من المؤرخين، والكُتّاب، والكلاسيكيين مثل: "هيرودوتس، ديودورس الصقلي"، وبهر من جاء بعدهم.

بدأت عملية التحنيط منذ 2600 ق.م في وقت بناء الهرم الأكبر. من هنا تأتي معنى التحنيط الذي يعني: الطريقة التي يتم فيها حفظ الجسم من التلف باستخدام مواد كيميائية، ليبقى الجسد محتفظًا بمظهره، ويظهر وكأنه حيًا. وأما الجسم المعالج، فيسمَّى "المومياء"، ويعود أصل مصطلح التحنيط إلى القرن الرابع عشر تحديدًا، والكلمة مشتقة من كلمة mummification تلك التي اشتُقّتْ من كلمة "مومياء"، وما زال البعض يعتقدون خطأ أنها مشتقة من كلمة عربية معتبرين أن الكلمة عربية خالصة. استخدمت كلمات مثل embalming من اللغة الإغريقية؛ والتي تعني إغراق الجسد بالبلسم، والمصطلح الفرنسي القديم embausmer؛ والذي يعني حفظ الجثث بالتوابل. ويشير مصطلح balm إلى المادة العطرية المصنوعة من "الرتنجية، والزيوت كالبلسم والتوابل" التي استخدمها الفراعنة في تحنيط جثثهم.

فلسفة الموت والخلود عند القدماء المصريين 

أراد المصريون أن يصبح مصيرهم مثل الإله أوزوريس. ذلك الإله الذي كان أول شخصية تحنط في ذاكرة المصريين؛ لأن فلسفة التحنيط هي الحفاظ على الجسد من أجل عودة الروح إليه.

لقد اعتبر القدماء المصريون أن هناك نوعين من الموت: الموت الأول، والموت الثاني.

أما الموت الأول من وجهة نظرهم: فهو مفارقة الروح البدن، والدخول إلى عالمٍ غامضٍ؛ ولكنه ليس نهاية الحياة. إنها مرحلة انتقالية لحياة أخرى.

أما الموت الثاني: فيعني تحليل الجسد وفساده؛ لأنهم اعتقدوا أن الجسد والروح عند الموت يفترقان، ثم ترجع الروح إلى الجسد مرة أخرى يوم الدفن، وفي النهاية تبقى الروح خالدةً مخلَّدةً في السماء والجسد على الأرض. واعتبروا أن عملية التحنيط تساعد في إيقاف عوامل فناء المادة، ومساعدة جوهر الحياة في المستقر السماوي.

شكَّلتْ فكرة الخلود أساس الديانات المصرية وجوهرها؛ فأرادوا الخلود وعمدوا إلى الوصول إليه بقلبٍ مبرَّأٍ وجسدٍ سليمٍ. ومن هذا المنطلق عشق المصري القديم الحياة الدنيا، وسعى وعمل من أجل الأبدية الخالدة. يقول "هيرودوت" المؤرخ اليوناني: إن قدماء المصريين هم أول الشعوب الذين اعتقدوا بخلود النفس"، وورد في النصوص المنقوشة على الأهرام التي يرجع تاريخها إلى الأسرة الأولى: "إن النفس الخالدة لا تموت أبدًا". وإن فلسفة الخلود، وحياة ما بعد الموت هذا الفكر العقائدي كان من طقوسهم الدينية، وبالتالي كان حفظ الفراعنة لأجساد موتاهم وأجساد حيواناتهم؛ لكي تكون مستقرًّا أبديًّا.

كانت فكرة الخلود عند المصريين القدماء تتعلق بفكرة الحياة الأبدية للفرعون فقط؛ لأنه ابن الشمس الخالدة التي لا تموت، فتغيب الشمس كل ليلة لتعود تتجدد كل صباح. أما عامة الشعب فكان مأواهم الأرض؛ لأنهم لا يملكون الطبيعة الإلهية الخالدة؛ فارتبطت فكرة التحنيط وحياة ما بعد الموت ارتباطًا وثيقًا بالملكية، وإن الملك وحده صاحب الحق في التحنيط والدفن وحياة القبر، أو حياة عالم الأموات.

اعتقد المصريون القدماء أن الميت في قبره يأكل ويشرب، وأنه بين حاشية الشمس. في الوقت نفسه ظن البعض أن الميت يعيش بين نجوم السماء. والبعض الآخر ظنوا أن الميت يجلس على الأشجار بين الطيور. وآخرون ظنوا أنه يظل فوق الأرض، حيث تستقر عظامه.

تحنيط المصريين القدامى لموتاهم

كان المصريون يأخذون الجسد، ويذهبون به إلى ورشة التحنيط، فكانت تسمَّى (ببيت الطهارة)؛ فيقومون هناك بأداء خطوات التحنيط. وتباينت آراء الباحثين في عدد الخطوات. فبعضهم ذكر أنها ثلاث عشرة خطوة، والبعض الآخر أكد أنها أقل من ذلك، ثم يبدأ المحنِّطون بخطوات الغسل والتطهير عن طريق تنظيف الجسد من الأوساخ، ووضعه في حوض الغسل. ويغسل بالماء و"ملح النطرون"؛ وبعدها يتم إزالة الأعضاء الداخلية للجثة بواسطة عمل شقٍّ صغير في الجانب الأيسر من الجسم، ويتم إزالة الرئتين، والأمعاء، والكبد. بينما يترك القلب في الجسد حيث كان الاعتقاد بأنه مركز الذكاء، وسيكون هناك حاجة إليه في الحياة الآخرة.

وبعد ذلك يتم تفريغ الدماغ بإدخال آلةٍ حادَّةٍ من أدوات التحنيط من خلال فتحة الأنف، ويتم تفريغ الدماغ من خلال الأنف، ثم تترك الجثة حتى تجفّ، ويكون الجسم بكامله مدفونًا بملح النطرون الذي يعمل على امتصاص أي رطوبة في الجسم، ثم يترك لمدة 40 يومًا حتى يجفّ، وبعد أن يجفّ الجسم يتم غسله بماء النيل، وتغطيته بالزيوت لمساعدة الجسم من البقاء مرنًا، وبعد ذلك يُحْشَى الجسم بنشارة الخشب، والكتان ليكون شكل الجسم وكأنه نابضٌ بالحياة، ثم يُلَفّ الجسم بعد الانتهاء من التحنيط بطريقة معينة بدءًا بالرأس والرقبة، ثم أصابع اليدين والقدمين ولفِّه باللفائف؛ فكانت تلك الطقوس تستمر قرابة سبعين يومًا على حسب اعتقاد الباحثين؛ لكي ينتقل الميت من أهل الأرض إلى أهل السماء.

وبطبيعة الحال، فإن طرق التحنيط الجيدة ظلت حكرًا على الملوك والأمراء والأغنياء، أما معظم سكان مصر، فلم تحنط جثثهم بهذه الطريقة بسبب ارتفاع تكاليفها؛ لذلك كانت توجد طريقة ثالثة للتحنيط رخيصة الثمن خاصة بالناس العاديين، وإن هذه التقنية الأخيرة لم تحافظ على سلامة جثث الموتى فترة طويلة.

المومياوات المصرية تكشف أسرارها

كيف تطوّر التحنيط 

تطور التحنيط في أواخر القرن الحادي عشر ق.م في عهد الأسرة 21 وكان في أروع صوره في الدولة الحديثة. يُعتبر العصر الحادي والعشرون قبل الميلاد واحدًا من أهم الفترات في تاريخ الحضارة المصرية القديمة في مجال حفظ وتحنيط الجثث؛ حيث اتسمت عمليات التحنيط في تلك الحقبة بالتطور والابتكار، حيث لم تعد مقتصرة فقط على التجفيف والدهن ولف الجثث بأقمشة الكتان، بل أضيفت خطوات جديدة غير مسبوقة بواسطة المحنطين، مثل تحنيط جثمانات كبار الملوك مثل الملك تحتمس الأول والملك أمنحتب الثاني والملك سيتي الأول والملك رمسيس الثاني. وهذه أروع الأمثلة على إتقان المصري القديم للتحنيط، واحتفاظ الجسم بأنسجته.

ففي ذلك العصر ظهر "كهنة طيبة" الذين غلب عليهم طموح الملكية فاغتصبوا ألقاب الملوك، وانتشر السحر والسحرة، وانتشرت سرقة المقابر من أجل البحث عن الكنوز المخبئة.

أدوات التحنيط 

استخدم المحنطون أدوات خاصة مثل فرشاة التحنيط من سعف النخيل بطول 10 سم، والإزميل لكسر عظمة الأنف، والمعلقة لاستخراج المخ، والمشرط لقطع البطن واستخراج الأحشاء. يُستعمل الملقاط والمخزاز والإبرة لإعادة خياطة فُتحة البطن، ويتم استخدام المقص البرونزي والسباتيولا البرونزية أيضًا. حيث كانت أغلب الأدوات مصنوعة من البرونز.

مواد التحنيط 

استخدم المحنِّطون في عملية التحنيط مواد مستوردة ومحلية طبقًا للطبقة التي ينتمي إليها المتوفَّى. ومن أهم مواد التحنيط: الماء الذي استخدمه المحنط كمادة تطهير لإزالة الأوساخ المتعلقة بالجسد. وملح النطرون الذي يساعد على تجفيف الجثة، وهو مخلوط ملحي يتكون من كلوريد وسلفات الصوديوم لسحب الماء من الجسم. والقار الذي يساعد على الحفاظ على الجسم من التحليل والتفسخ، وكان يؤتى بها من بلاد فلسطين والبحر الميت. والحناء التي تستعمل كمادة حافظة وخضابٍ للأيدي والأرجل والشعر باللون الأحمر لبعض المومياوات. وخيار شنبر وهو نوع من أنواع البهارات تستخدم كمادة مجففة. وشمع النحل الذي تُغطَّى به العينان والأنف والفم ولصق الجرح. والنباتات مثل: البصل للحفاظ على الجثة من التعفن. وزيت خشب الأرز الذي يستخدم كمادة تحقن داخل جوف الجثة من أجل تجفيفها.

كانت كل هذه المواد توضع فوق الجثة، وبداخلها منذ عصر الأسرة الثالثة عشر، كما استُخْدِمَ نبيذ البلح، وبعض الأزهار والخضروات بقصد تعطير الجثة.

أسرار التحنيط 

لقد كان التحنيط سرًّا من الأسرار التي احتفظ بها القائمون على التحنيط، ولم يبوحوا بأسرار تلك المهنة إلَّا إلى المقرَّبين منهم.

غير أن الباحثين قد تمكنوا من التعرف على معظم أسرارها، من خلال المعلومات التي تركت في سجلات الكُتّاب والمؤرخين، الذين زاروا مصر في أواخر عهود ازدهارها وبالإضافة إلى الاطلاع على المومياوات المحنطة وتحليلها كيميائيًّا مع ما عثروا عليه في القبور من خلال بعض الأدوات والعقاقير التي كانت تُسْتخدم في التحنيط.

لعنة المومياء 

ما زالت كلمة "مومياء" تثير الغموض وتفتح أبواب الواقع إلى أن تتجاوزه إلى عوالم الخيال. يرى البسطاء هذه التسمية على أنها جسد ميت قديم تسكنه الأرواح الشريرة، وتُعتبر المومياء مخلوقًا ينشر الحظ السيء والتشاؤم على من يقترب منها أو يلمسها، وهذا المفهوم متجذر في عقول وأفكار الناس، بمن فيهم الروائيين وصناع السينما. فظهرت الحوادث التي ترتبط بهذا الموضوع في عام 1699 م عندما اشترى تاجر آثار مومياء مصرية، وحملها معه في باخرة إلى أوربا، وفي عرض البحر هَبَّتْ عاصفةٌ شديدةٌ، فانقلبت الباخرة، وغرق أغلب من فيها، فظن التاجر أن سبب الحادث هو المومياء المصرية التي استدعت الأرواح الشريرة لتقلب الباخرة، فقرر التاجر إلقاء المومياء في البحر.

من بين الأسباب الرئيسية التي ساهمت في انتشار مفهوم اللعنة المتعلقة بالمومياوات هي الأفلام السينمائية التي جعلتها شخصيات تعود إلى الحياة من توابيتها للانتقام، وهكذا أصبحت هذه المومياوات محورًا لأفلام الرعب والخوف في هوليود.

والسبب راجع إلى سوء فهم النصوص المصرية القديمة، إذ هناك كتابات منقوشة على أوجه المقابر تهدد بالسوء كل المتجرئين على اقتحام المكان، والهدف الأساسي من هذه الكتابات هو حماية المقبرة من المعتدين◼

* للاطلاع على فلسفة الموت عند المصريين القدماء، اقرأ المزيد هنا.

تعليقات