تحت الأرض
وطئت قدماه باب العمارة وهو يتأوه ألمًا من شدة التعب..
رفع قدميه في تثاقل شديد متجهًا ناحية اليمين، ثم راح ينزل درجات السلم إلى أسفل، حتى وجد نفسه تحت الأرض في البدروم المظلم شديد الظلمة...
غاضبًا، أنزل ما يحمله جانبًا.. أدخل أصابعه داخل جيبه..
أخرج علبة الكبريت النائمة في صمت ودفء.. فتح بابها..
أخرج عودًا خشبيًّا كان يغط في نوم عميق بجوار أشقائه..
أشعله على الفور فتوهج مستيقظًا..
أخرج الفاتح..
دسه في عين الباب ليستأذنه في الدخول.. يعلن عن دخوله بعد أربع تكات متتالية.. تك.. تك.. تك.. تك..
وكأن الباب يقول له: ت.. ف.. ض.. ل..
يدخل في فم الحجرة المظلم المفتوح عن آخره..
رمى بكيس البلاستك الكبير الممتلئ حتى المنتصف بعلب المناديل الورقية جانبًا..
أخرج عودًا خشبيًّا آخر بعد موت الأول، أشعل من خلاله الشمعة الواقفة على (حيلها) في انتظاره، والتي تآكلت حتى المنتصف، بعد أن استعملت أمه نصفها الأول تاركة له نصفها الثاني.
راح يتأمل الشمعة التي راحت تذوب خجلًا وكأنه يراها للمرة الأولى، وقع بصره على الطبق الصاج المتربع في شموخ بجوار الشمعة والمغطى برغيف العيش البلدي..
مد يده رافعًا (الرغيف) ليصطدم بحبات الفول الصلبة القابعة داخل الطبق، والتي راحت تنظر إليه في سخرية.. همس في غيظ وضيق:
– فول.. أو.. طعمية.. والطعمية من الفول..
التفت إلى أمه التي تغط في نوم عميق، راح يسترجع كلماتها:
(معلش يا بني إحنا بنحرم نفسنا من كل حاجة حلوة عشان نركب عداد النور)
عاد ليتلفت من حوله داخل الحجرة الفقيرة في كل شيء وكأنه يفتش عن شيء مفقود..
وجد نفسه يقارن ما بين قوالب الطوب الأحمر المتراصة فوق بعضها المصنوع منها الحجرة وبين حبات الفول الجالسة في كبرياء داخل الطبق والتي تتشابه تمامًا وإلى حد كبير بينها وبين قوالب الطوب، وكأن هذه الحجارة تنجب من بطونها كل ليلة تلك الحبات من الفول..
مد إصبعيه ليلتقط واحدة من حبات الفول، ظل يتحسسها جيدًا مرات عدة.. ثم قربها إلى عينيه، راح ينظر إلى قوالب الطوب وهو يهز رأسه مبتسمًا وكأنه قد تأكد الآن من حديث نفسه، غضبًا (طوّحها) في وجه الحجرة فارتدت إليه ثانية داخل الطبق.
تلك الحجرة الوحيدة داخل البدروم والتي بنى جدرانها المعلم (صلاح) الجزار بعد أن طردهم صاحب البيت لتأخرهم عن دفع الإيجار قرابة العامين أو يزيد بعد موت والده الذي مات فجأة في حادث أليم، جلوسهم داخل هذه الحجرة كان مشروطًا بخدمة الست أم (خالد) والتي سوف تقدمها مضطرة إلى زوجات المعلم (صلاح) الأربع داخل العمارة من مسح السلم يوميًا وغسيل السجاجيد وشراء احتياجاتهم من السوق.. كل هذا مقابل جلوسهم في البدروم دون دفع إيجار..
– آه ه ه ه ه ه ه ه ه ه ه ه ه ه ه
تنهد(خالد) تنهيدة طويلة.. طويلة خارجة من أعماق.. أعماق قلبه لترتطم بجدران الحجرة فيعود إليه صداها آهات كثيرة..
التفت إلى الشمعة التي ما زالت تبكي وتبكي في حرقة بالغة من آلام حرقتها وكأنها تبكي على حديثه الهامس داخل صدره..
في تثاقل شديد مد يده مستسلمًا.. تناول العشاء خوفًا من موت الشمعة المرتقب، وبعدها لا يستطيع رؤية حتى أصابعه.
فوق الأرض
– لأه.. لأه يا ماما..
– مش ممكن.. لازم تسمع الكلام..
الولد الذي فوق الأرض ما زال يجري داخل الشقة هربًا من أمه التي راحت تلاحقه في كل الأماكن ولم تستطع الإمساك به لبدانتها الواضحة..
قالت بعد أن هدها التعب:
– طيب إنت مش عاوز تسمع كلامي.. أنا حا وريك..
أسرعت بفتح باب الشقة..
مدت رأسها لأسفل وراحت تزعق في ضيق:
– يا واد يا خالد.. انت يا زفت يا للي اسمك خالد..
انتفض (خالد) من مكانه واقفًا دون أن يكمل طعام العشاء تاركًا الشمعة تأكل نفسها، تلك الشمعة التي أوشكت على الانتهاء.. رفع رأسه إلى أعلى وراح يقول:
– نعم يا هانم..
– اطلعلى يا واد عاوزاك حالًا..
حدث نفسه في همس وضيق منها بعد أن راح يضرب الأرض بقدميه:
– وهو ده وقته…!!
أسرع إليها.. تلتهم قدماه درجات السلم حتى وصل إلى شقتها في الطابق الرابع، وقف أمامها وهو يحاول أن يأخذ أنفاسه المتلاحقة.. ثم قال في حياء وخجل شديدين وهو ينظر أسفل قدميه كما عودته أمه:
– نعم.. نعم يا هانم..
– نضف رجليك كويس وادخل ورايا..
وطئت قدماه للمرة الأولى باب شقتها.. فهو كان يقابل الهانم على عتبة بابها دون الدخول إلى الشقة.. يتسلم منها الفلوس ويعرف جيدًا ماذا تريد ثم يعود مسرعًا ويسلمها حاجاتها على عتبة باب شقتها..
عيناه الذابلتان راحتا تحتضنان وبشدة محتويات الشقة.. نظر إلى قدميه اللتين غاصتا في السجادة الطويلة والعريضة.. طولها هذا يساوي حجم حجرته أو يزيد..
الضوء المنبعث بقوة من السقف جعله يرفع عينيه ناظرًا إلى النجفة الكبيرة التي أكلت نصف سقف الصالة.. تبسم ساخرًا عندما تذكر شمعته التي تركها تحترق..
_ أنت..
استيقظ من غفوته على صوت الهانم وهي (تشخط) فيه.. وجد نفسه يردد:
– ن.. نع.. نعم يا هانم..
– حمادة ابني جوه الأوضة دي.. عاوزاك تمسكهولي..
– حاضر.. حاضر يا هانم..
دق.. دق.. دق..
– افتح يا حمادة بيه..
قالها بعد أن دق بابه ثلاث دقات.. وقف كعمود إنارة مصلوبًا أمام الحجرة يستأذنه في الدخول..
– افتح وخش..
قالتها من خلفه الهانم..
فتح الباب..
ليجد (حمادة بيه) يقف فوق السرير وهو يتقافز سعيدًا.. يعلو ثم يهبط وكأنه يجلس فوق أرجوحة..
دون إرادته وجد قدميه تجرانه داخل الحجرة المتسعة جدًّا.. جدًّا.. جدًّا..
راحت عيناه تحتضنان الأشياء.. كل الأشياء من لعب الأطفال بشتى ألوانها وأحجامها وأشكالها وأنواعها المترامية في أرجاء الحجرة وفوق بعضها من كثرتها.. ها هو المكتب الذي كثيرًا ما تمنى أن يجلس عليه في يوم من الأيام، لا ليس بهذا الحجم الكبير، وتلك الحقيبة الجلدية، و… و… و…
وقف مصلوبًا مشدوهًا أمام تلك الأشياء..
كم تمنى (خالد) أن يدخل المدرسة ليصبح واحدًا من هؤلاء التلاميذ..
كم تمنى أن يرتدى زي المدرسة.. ذلك الزي الذي يرتديه فقط كل ليلة في منامه..
كم تمنى أن يحمل حقيبته الجلد فوق كتفه مثل الأولاد الذين يقابلهم ويقابلونه كل يوم صباحًا وعند العصاري في إشارات المرور وهو يبيع علب المناديل الورقية..
تذكر قول أمه عندما فكر في يوم من الأيام وحكى لها عن ذلك الحلم الذي دائمًا يراوده كل ليلة..
(يا بني إحنا ما تخلقناش للعلام.. إحنا اتخلقنا للتعب والعذاب.. يا خالد إنت ابني الوحيد يعنى إنت دلوقتي كبيري.. يعنى انت مكان أبوك الله يرحمه.. وزي ما إنت شايف يا بني إحنا ازاي انطردنا من بيتنا وإحنا علينا إيجار شهور كتير متأخرة.. حتى فرشنا وكل عزالنا ما عرفناش ناخده.. خذه صاحب البيت المفتري تمن الإيجار المتأخر.. يا بني عشان خاطري عشان تعيش في الدنيا دي سعيد ما تحاولش تبص لفوق.. خلى بصتك دايمًا لتحت…)
– واقف كده ليه يا زفت.. امسكه..
صوت الهانم يخرج غاضبًا ليفيقه من حلمه..
– أنا أهه.. أنا أهه..
صوت (حمادة بيه) يخرج ضاحكًا ساخرًا..
خطا خطوات بطيئة متثاقلة نحوه، وما زالت عيناه على الأشياء التي تحيطه من كل جانب..
انقض عليه فاردًا يديه ليكتشف أنه قد أمسك بالهواء ليقع بكل قوة فوق السرير..
على الفور شعر براحة لم يشعر بها من قبل.. تلك الراحة
التي راحت تسري بسرعة الصاروخ في جسده النحيل..
تذكر (الحصيرة) التي أكلت من جسده الكثير والكثير، وعندما يستيقظ يجد الحصيرة قد طبعت أشكالها على وجه ويديه..
وجد أصابعه تتحرك في بطء لتتحسس السرير ناعم الملمس..
– أنا أهه.. أنا أهه..
صوت (حمادة بيه) الساخر يخرج قويًّا كحد السكين ليمزق أحلامه تمزيقًا..
جاهدًا حاول التحرك / التحرر من قبضة السرير الذي التصق بشدة بجسده النحيل رافضًا أن يتركه..
– أنا أهه.. أنا أهه..
قام متثاقلًا..
راح يخطو خطوات بطيئة متثاقلة خلفه وعيناه ما زالتا تتلفتان يمنة ويسرة تودعان حلمه المتربع داخل الحجرة وهو يحدث نفسه غاضبًا في همس:
– فيها إيه يعني لو حمادة بيه نزل تحت الأرض وأنا طلعت مكانه.. هنا فوق الأرض..
دخل (حمادة بيه) حجرة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة و (خالد) من خلفه كظله يتتبعه وكلما دخل حجرة رفضت قدماه الخروج منها، وكأنها قد التصقت بالغراء بأرضية المكان.. حتى استطاع أن يمسك به..
راح (حمادة بيه) يضرب (خالد) ضربات كثيرة متتالية في بطنه وفى أجزاء كثيرة من جسده، كي يستطيع الفرار من قبضة يده ولكنه لم يستطع؛ رغم الفارق الجسماني فيما بينهما ..اقترب (خالد) من الهانم الجالسة فوق الكرسي الخشبي الهزاز..
تبسمت عندما رأت (خالد) أفلح بالإمساك بابنها..
مبتسمًا قال (خالد):
– معلش والنبي يا هانم سامحيه المرة دي..
– اخرس انت..
– حاضر.. حاضر يا هانم..
– هاته هنا..
– حاضر.. حاضر يا هانم..
ما زال (حمادة بيه) يركل (خالدًا) ركلات كثيرة متتالية في صدره وفى بطنه محاولة منه للهرب..
– آه.. آه.. آه.. آه..
(خالد) ليس باستطاعته فعل شيء غير أنه راح يخرج الآهات المخنوقة/ المكتومة الخارجة بقوة من أعماق.. أعماق قلبه…
وقف أمام الهانم التي قامت من مكانها.. أمسكت بابنها وأجلسته مكانها على الكرسي ثم وضعت يديه خلف ظهره وأمسكتهما بإحكام شديد وهي تقف خلف الكرسي..
في غضب شديد قالت لخالد:
– هات الطبق ده..
– حاضر.. حاضر يا هانم..
مد يده يلتقط الطبق..
فجأة..
تعلقت يداه في الهواء..
عيناه راحتا تحدقان في الشيء القابع في كبرياء داخل الطبق.. وجد نفسه يحدق في الطبق طويلًا غير مصدق ما يراه..
– هات الطبق..
انتفض جسده..
اهتز الطبق في يده..
في لجلجلة قال:
– ح.. ح.. حا.. حاضر..
التقط الطبق الممتلئ عن آخره بقطع اللحم المشوية، رائحة اللحم المشوي راحت تدخل إلى أنفه سريعًا حتى جعلت أمعاءه تتعارك بشدة وفمه ينفتح عن آخره ولسانه داخله يتحرك يمنة ويسرة منتظرًا في شوق شديد.. شديد جدًا دخول قطع اللحم…
– هات الطبق ده..
– اتـ.. اتفـ.. اتفضلي يا هانم..
– أكل حمادة بيه..
– نعم..
– ما سمعتش.. بقولك أكل حمادة بيه..
جلس على ركبتيه أسفل قدمي (حمادة بيه) مد يده داخل الطبق.. أمسك بقطعة اللحم، وفي تثاقل شديد وبطء أشد حملها..
راحت يده ترتفع..
وترتفع..
وترتفع..
متجهة دون قصد أو عمد نحو فمه المفتوح عن آخره، وكان في فمه مغناطيس..
– أكل حمادة بيه..
– ح.. ح.. حا.. حاضر..
تلك الكلمات الغاضبة الخارجة بقوة من فم الهانم جعلت عجلة قيادة يده تغير اتجاهها نحو فم حمادة بيه..
فجأة..
تذكر نفسه وهو يتجول بين إشارات المرور لبيع علب المناديل الورقية، وعندما يدق منبه معدته ويستيقظ جوعه بداخله على الفور يترك مكانه..
يتحرك مسرورًا في اتجاه شارع ميدان الساعة قاصدًا حاتي (أبو سيد أحمد).. يقف بجوار فوهة خروج الدخان المحمل برائحة اللحم المشوي، ينظر يمنة ويسرة وفي عجالة يمد يده داخل الكيس الكبير لعلب المناديل الذي يحمله بين يديه ليخرج (رغيفين) من العيش البلدي الذي اعتاد أن يشتريه صباح كل يوم، يقطع (لقمة) راح (يغمسها) بقوة في الدخان الخارج المحمل برائحة اللحم المشوي ثم يضعها في فمه وهو يردد في نشوة وسعادة الله.. الله.. الله..)
– أكّل (حمادة بيه) كويس يا زفت..
في غيظ شديد راح يقول:
– حاضر.. حاضر يا هانم..
أمسك بالطبق وراح يضع قطع اللحم الواحدة تلو الأخرى داخل فم (حمادة بيه) الذي ما زال يضربه في بطنه بقدميه وهو يردد:
– كفاية.. كفاية يا ماما مش قادر..
– لأ.. أنا شايفاك يا حبيبي ضعفت أوى الأيام دي..
راح (خالد) ينظر إلى جسد (حمادة بيه) الضخم ثم راح ينظر إلى جسده النحيف الذي يشبه تمامًا شمعة حجرته المشتعلة
– كفاية.. كفاية يا ماما بطني حتنفجر من كتر اللحمة..
– لأ.. لازم تاكل طبق اللحمة كله..
خالد ما زال يمسك بقطع اللحم في ضيق شديد، يضع القطعة تلو القطعة فم (حمادة بيه) وكلما امتدت أصابعه المحملة بقطع اللحم يجد فمه دون إرادته ينفتح عن آخره متخيلًا أن ما يدخل في فم (حمادة) يدخل في فمه.. حتى أعلنها (حمادة بيه) صريحة مدوية:
– كفايه أنا حموت.. والله العظيم ما عدتش قادر يا ماما..
تبسم (خالد) بعد أن خيل إليه أن (طاقة) السماء انفتحت له واستجاب الله لدعواته التي لم يكف عنها ليل نهار وسوف يأكل قطع اللحم المتبقية داخل الطبق.. همس في سعادة:
– أحمدك يا رب..
نظرت الهانم إلى (خالد) ثم قالت:
– ولد يا خالد..
تبسم لها ثم قال:
– نعم.. نعم يا هانم.. أنا تحت أمرك..
– أكل حمادة بيه باقي اللحمة..
في ألم وحسرة مد يده يلتقط قطع اللحم ليدخلها في ضيق وحزن فم (حمادة بيه) الذي اغتاظ من طاعة (خالد) العمياء لسماع أوامر أمه، فراح في غيظ شديد يضربه برجليه..
فجأة..
ظهرت أمام عيني (خالد) فكرة.. تلك الفكرة التي توقفت أمامه متصلبة.. رأسها وألف جزمه قديمة لن تتحرك من أمامه قبل النظر في قوامها وسماع ما قد جاءت به من أجله.. من أجله هو فقط دون غيره..
مضطرًا استسلم لتلك الفكرة.. راحت تهمس في أذنيه:
(وقع حتة لحم أو حتتين على الأرض وخدهم وأنت مروح)
تبسم (خالد) بعد أن راح يقلب الفكرة يمنة ويسرة.. فقد أعجبته أشد الإعجاب، فأسرع بتنفيذها على أكمل وجه..
أمسك بقطعة اللحم وأراد أن يسقطها مهزومة أرضًا ولكنه سرعان ما فشل في تنفيذ خطته..
أعاد المحاولة مرة ومرات وفى كل مرة يفشل بسبب عيون الهانم المتربصة به.. حتى وجد نفسه يضع آخر قطعة لحم داخل فم (حمادة بيه) ثم وجد نفسه يحدق وبشدة في حزن وألم وحسرة في الطبق الفارغ..
– إوع كده يا أخي..
وجد (خالد) نفسه مدفوعًا.. ملقى على ظهره من جراء دفع (حمادة بيه) بقدميه حتى يصبح حرًا طليقًا..
– ولد يا خالد..
– ن.. ن.. ن.. نعم يا هانم..
– خلاص مهمتك لحد كده انتهت.. اخرج واقفل الباب وراك
– حاضر.. حاضر يا هانم..
راح (خالد) يخطو خطوات المهزوم نحو باب الشقة وهو يحتضن بنظراته المتحركة في شتى الاتجاهات مودعًا الشقة الوداع الأخير، ولسان حاله يردد في ألم:
– فيها إيه يعني لو حمادة بيه نزل تحت الأرض وأنا طلعت مكانه هنا فوق الأرض..
أغلق الباب بشدة من خلفه..
نزل درجات السلم ورائحة اللحم المشوي ما زالت تتبعه..
راح يبحث عن سبب المصدر ليكتشف أن أصابع يده عالقة بها البواقي من (فتافيت) اللحم.. وجد أصابعه تدخل فمه الواحد تلو الآخر، بعد وقت قصير تخرج أصابعه من فمه بعد أن اغتسلت جيدًا بمسحوق لسانه الذي لم يعْرف بعد.. حتى وجد نفسه مرة ثانية تحت الأرض يقف أمام باب الحجرة..
دلف بداخلها..
توقف أمام الشمعة التي راحت تخرج بصيصًا من أنفاسها الأخيرة..
ذلك البصيص الذي انعكس انعكاسًا كليًا فوق طبق الفول..
رمى بجسده المهزوم من ركلات (حمادة بيه) المتواصلة وهو يتأوه كثيرًا..
راح يوزع نظراته ما بين الشمعة التي أوشكت على الانتهاء والتي أبت أن تطفئ ضوءها دون دخوله إلى الحجرة حتى يرى أسفل قدميه، وتارة ثانية ينظر إلى طبق الفول الذي راح يحدق فيه بشدة، وتارة ثالثة إلى يده التي راحت تتحسس بطنه المنتفخ وكأنه قد التهم طبق اللحم كله..
رفع عينيه إلى سقف الحجرة وراح يحدق فيه طويلًا..
طويلًا..
طويلًا..
حتى كادت نظراته الحادة هذه أن تخترق سقف الحجرة لتصل إلى شقة (حمادة بيه)..
رويدًا..
رويدًا.. راحت الشمعة تخرج آخر أنفاسها والتي معها أغلق بابي عينيه مستسلمًا لظلمة الحجرة وللنوم.
مصر | محمود أحمد علي