📁 تدوينات جديدة

الجمجمة والعضلات | قصة: عبد الواحد الغندوري

الجمجمة والعضلات | قصة: عبد الواحد الغندوري
 المغرب | عبد الواحد الغندوري 

وقعت عيناه، وهو متجه إلى المقهى بباحة سوق الجملة للخضر والفواكه، على لوحة قديمة كتب عليها: "لا يدخلها إلا أصحاب الجماجم وممنوعة على أصحاب العضلات". بعدما سلم على العمال محافظا على هيبة مدير السوق مجتنبا الاستعلاء، اكتفى ناصر بالجلوس على الرصيف. رحب به صاحب المقهى مع حفاوة مصطنعة، ثم حياه النادل، وسأله باحترام:  

-مشروبكم سيدي المدير؟ 

-فنجان قهوة.

انصرف النادل ليحضر المشروب المطلوب لزبون مهم من درجة عالية، في حين انصرف ذهن ناصر إلى حادثة اللوحة، كيف مُنع من الدخول يوم عُلِّقت بباب المقهى: "أنت حمال مثلك مثل الحمار، فلا تزاحم أسيادك التجار وتفسد عليهم راحتهم وهم يحتسون فناجين القهوة، أخرج ولا تلتفت، أراك تحملق فِيَّ... ألم يعجبك قولي؟! " هكذا خاطبه من كان يلقب بـ "الحطَّاب"، مدير سوق الجملة آنذاك... لم ينس ناصر ما حدث رغم مرور ما يزيد عن عقد من الزمن. وهوسَاهِمٌ في منظر حركة الحمَّالين الدؤوبة، جاءه النادل بفنجان قهوة راقت رائحتها الفواحة الخياشم قبل أن يتذوقها اللسان. شكر النادل، أدار الملعقة داخل الفنجان بحركة خفيفة لِيُذَوٌّب قطعةَ السكر. فأثار انتباهه كيف يختلط بياض قطعة السكر الصغيرة بسواد ٱلْبُنِّ فيقضي على مذاقه المر، وكأنه يقوم بهذا الحركة لأول مرة؛ "أهكذا كنت يا ناصر، قطعة سكر في مواجهة ظلم المدير؟! أم أنه كان بُنًّا بَارِدا لا يذوب به السُّكر؟!" تحدث إلى نفسه وهو يرشف الرشفة الأولى من فنجانه. شعر بتحفيز ذهني وانجرَّ نحو تفاصيل حادثة اللوحة الملعونة، سمع رده بصوت مجلجل، الذي لم يعجب المدير: " إن السوق فضاؤنا جميعاً، وهم يخدموننا ونحن نخدمهم، فَلِمَاذَا..."، وقبل أن يكمل عبارته توجه إليه المدير "الحطاب" بنبرة غضب وتوبيخ: " اُسْكُتْ، فلا مكان لك منذ اللحظة في السوق، غادِر قبل أن تخرجك الشرطة بأثقل التُّهم."

ترك ناصر سوق الجملة الذي عمل به حَمَّالا يستعين بأجره الزهيد على استكمال دراسته الجامعية. شرع في البحث عن عمل جديد وبين ضلوعه جرح غائر، لقد آلمه طرد "الحطاب"، غير أنه لم يقتله، إذ وجد عزاءه في نيل درجة ممتازة بين الطلاب. وهو غائص في بحر الذكرى، تمتد يد ناصر إلى علبة سجائر بجيبه راغبا في تدخين سيجارة غير أنه لم يجدها، استحمد الأمر وأجال النظر في الحديقة الصغيرة الموجودة أمام المقهى، فرأى قطا يحمل سمكة صغيرة تحت ظل شجيرة قريبا من رواد المقهى بعيدا من أرجل الحمالين. هذا المشهد جعله يشم رائحة البحر رغم أنه في مدينة غير بحرية، تلك الرائحة التي كانت تدغدغ خياشيمه كل صباح، وتحثه على حمل صناديق السمك من المراكب العائدة للتو بحمولة يحتاج تفريغها إلى عشرة عمال أقوياء أشداء. لقد ظل لأعوام يفرغ حمولة تعد بالأطنان مقابل أجر يغطي مصاريف الدراسة والسكن مع سلة صغيرة من السمك كان يأخذ منها القليل ويوزع الكثير على جيرانه. "الجمجمة والعضلات" هي المعادلة التي ستشغل بال ناصر فيسخر كل قواه لدحض رأي "الفيلسوف الحطاب" خلال دراسته الجامعية بكل أسلاكها. أيستطيع ذلك أم لا؟ التتويج للمسار بشهادة الدكتوراه في التدبير والتسيير بدرجة ممتاز أثبت أن ناصر يستطيع. وهو موزع بين الحاضر والماضي مُدّت إليه يد غزاها الفالج لتصافحه، رفع رأسه فرأى أمامه عينين تتفحص وجهه بفضول زائد وتودد مصطنع: " أأنت هو السيد المدير الجديد للسوق؟!" تمهل ناصر قبل الإجابة حتى يعرف من يكون هذا الشيخ، فصوته غير غريب عن مسمعه، رغم البحة والحشرجة التي تخالطه، تدخل صاحب المقهى لرفع اللبس والحرج، فوضع كرسيا جديدا أنيقا بجوار طاولة ناصر تمهيدا للجمع بين القديم والجديد، غير أنه يصعب ذلك إذا غابت الأصالة في أحدهما. "تفضل..." أومأ صاحب المقهى للشيخ بالجلوس، وما إن اعتدل في جلسته حتى أشار صاحب المقهى إلى ناصر قائلا: "هذا هو مدير سوقنا الجديد السيد ناصر." فافْتَرَّ الشيخ المفلوج عن أسنانه مبتسما ابتسامة "صفراء"، ثم أشار بأصبعه إلى الشيخ: "السيد المدير السابق للسوق الملقب بـ "الحطاب". مرحباً بكم معا..."، وهَمَّ بالانصراف غير أن نَاصِر ناداه، وقد قام من جلسته، وفي صوته ما يدل على قوة المدير وصلابته في اتخاذ القرار والسهر على تنفيذه: "أزل هذه اللوحة للتو وضع مكانها لوحة بلون وخط جميلين ترحب بجميع عمال السوق، فلا فرق بين أصحاب العضلات وأصحاب الجماجم في سوقنا...كل فئة تخدم الأخرى"، وهو ينتظر تنفيذ أمره شعر برغبة جامحة في التدخين، لكنه كبحها وقرر أن يُقْلِع عن ذلك بلا رجعة كما ستُقْلَعُ هذه اللوحة الصدئة من باب المقهى، ثم غَيَّر نبرة صوته ونادى النادل بلطف وآجره على خدمته مع منحة سخية، وفي الوقت نفسه أراد أن يتكلم "الحطاب" عن مزايا إبقاء هذه اللوحة، فألجمه نَاصِر بعبارة: "تسيير مرافق السوق من بين مسؤولياتي سيدي..." ثم انصرف إلى عمله وهو مبتسم نَشِط.


تعليقات