المغرب | عبد الواحد الغندوري
قم بواجبك تجاه ذاتك، وتجاه العالم من حولك، ولا تنتظر إلا الأسوأ، لأنك تبني في وقت كثر فيه الهدم والتطبيل…
اِجْعَل من المحبة زادك، ومن نبض قلوب المحبين موسيقاك، ومن الأمل شمعة تبدد بنور فتيلها عتمات الدرب الطويل…
لتبدأ من جديد، وإذا عزمت فتوكل…”
** تعليق:
هذه العبارة دونتها على ظهر إضبارة فوق مكتبي ونسيت اسم صاحبها، الذي قد يكون كاتبا أخلاقيا، أو لنقل إنها عبارة يتيمة وكفى…
أنا بدوري مللت الهدم وصوت الطبل صباح مساء، غير أن العجلة لم تتوقف عن الدوران، مثلما الكرة الأرضية حول الشمس. ففي كل صباحاتي أسُدُّ ٱلْمَسَامِعَ عن كل ضجيج، وأشقُّ طريقي إلى المرسى، لا حيث يرسو مركبي لأن الصيد على متن المراكب ما عاد يغويني، وإنما أتجه صوب أملي… هناك حيث يرسو متمايلا بين أَكُفّ أمواج تهدر حينا وتسكن أحيانا.
تنتابني مرات كثيرة رغبة في فك رباطه عن المرسى وجعله تحت رحمة الريح تلعب بأشرعته لعب القطط مع صغارها، إن صفا لها الحال، أو تعبث بها عبث السكارى المعربدين بقنينة فارغة في منتصف الليل، إن حدث العكس. وسرعان ما أكبح جماح هذه الرغبة، وأركب خيالي هازئا من كل ما يحول بيني وبين هذا الطائر، فألعن كل ما يفرق بيننا، ثم أجدد البداية معه متناغمين معا، إن واتتنا فرصة التقارب إلى حد التماهي، متنافرين إلى حد فك الرباط بعيدا عن فأس المرسى… فإن هو فر تبعته بقلب محب ولهان، وإن أنا وليت بالظهر حلق عاليا في أفق سمائي مغردا أغنية البداية من جديد. وظل هذا ديدننا -أنا وطائري- حتى نسينا أن هناك هدم وتطبيل، فشيدنا من لبنات تجاذبنا مباني نسكن فيها كلما أوشك الملل على التهام ما تبقى من خبز حبنا وإطفاء ضوء فتيل الشمعة بسراديبنا الموغلة في الطول والعتمة…
لا تسخر… فما تزيدك كلماتي شيئا ولا تنقص… المهم قد علمت ما أنا عليه مع طائري، هذا الوحيد الأنيس المشاغب في نافذتي صباح مساء بتغريداته المشاكسة أحيانا، الذي يجعلني (وكم من مرة) أستأنف دورة الحياة كما الأرض حول الشمس، فلا يفوتك أن تبدع على منوالك الخاص شكلا للأمل وموسيقى تقيك ضوضاء الطبالين وتجنبك لعنة الهدم التي أضحت موضة عند البعض..
لتبدأ من جديد…
و أنا سأكمل طريقي هذا الصباح نحو المرسى لكي أجلب بعض فضلات السمك لِقِطَّة الجارة، التي أصبحت تتربص بطائري، وتراوده عن الحياة، ويكاد، وهو ٱلْغِرُّ، أن يستجيب ظنا منه أنها تحبه… والأدهى من ذلك أنهما أصبحا يتواعدا في حضوري، فتغمزه مُلَوِّحَة بإشارة من ذيلها، مُصْدِرَة مُوّاء يشبه تأوه العشاق والمغرمين، أما هو فلم يعد هو ذاك “الطُوَيِّر” الذي أعرفه، بل أصبح لها هي، يحلم المسكين أنه سيحطم سياج قلبها ويتربع على عرشه، في الوقت الذي تخطط فيه هي الجائعة كصاحبتها (وهي جارتي المنخرطة في فرقة الطبالين محليا) لتملأ به معدتها وتُسَكِّن به ألم أمعائها المتضورة جوعا…
ما أصعب أن تسلك طريقين متوازيين، رغم أن الأول قصير، والثاني طويل جدا… كل هذا من أجل الحفاظ على الطائر الساحر الذي جعلني حبه أضاعف مجهوداتي لكي أطعم قطة الجارة العجفاء حفاظا على حياتنا معا… واتقاء لشر جارة طبالة تجوع قطتها وتحولها إلى عدو لدود -في عباءة حبيب- يخطط للإيقاع بطائري في أحبولة المخالب…
لتبدأ من جديد…
مادام جيرانك يطعمون قططهم وطائرك يحلق بعيدا في أجواء وحشية بجنب بحر لا مراسي به، ولكن به الأمواج التي تؤرجحه كما تؤرجح طائري… واسلك دربك الطويل قبل أن تسلك نحو طائر الأمل ولا تنس، حتى إن أطعموا جيرانك قططهم، أن للطيور أفواه أخرى وأمعاء أخرى تشتهيها… كما تشتهي طائري أفواه الحيات والثعابين… وكم من مرة كاد أن يؤدي الثمن غاليا لولا نسائم المحبة وموسيقى قلوب المحبين التي توسمنا فيها الأمان وطول عمر صداقتنا. ورغم كثرة الطبالين والهدامين، فإنَّ ما شَيَدْتُه من صروح يحميه من سم الأفاعي، كما أن ما يُغَرِّدُهُ في آفاقِي يُجْبِرُني على سلك الطريق القصير للمرسى الموازي لطريقي الطويل إليه…
كيف كانت بداية تعلقي بهذا الطائر أو قل حبنا المجنون الذي يستغرب له بعض الناس متسائلا -كيف للإنسان أن يتعلق بطائر يحلق في السماء ويحبه أو سمكة في المماه، كما حصل لأحد الطلاب ونحن في بلد أجنبي -والذي كانت تحبه سمكة حمراء في مماهها إلى حد الجنون- وكان هو الآخر يحرسها من شَرَهِ مَعِدَةِ العدو -طبعا قطة الجيران- لتبدأ من جديد، ولا تنس أنه على الرغم من أن الجوار جميل وكذا القطط، غير أنه في خمائل الجمال أحيانا يتربص الشر بنا.
** استدراك:
“تذكرت أن العبارة أعلاه، التي وسمت باليتم، هي لقارئ كتاب قديم اشتريته من معرض الكتب المستخدمة، كان قد دونها على هامش فقرة من فقراته بقلم الرصاص. فسارعت إلى كتابتها على ظهر إضبارة فوق مكتبي حفظا لها، ولا أدري، لحد الآن، ما الذي دفعني إلى الإقدام على ذلك.”