📁 تدوينات جديدة

قصص قصيرة جدا للكاتب عادل عطية


الوطن الأول

كان يُحرّك رأسه وهو ينظر إلي، وكأنه يبحث عن السبب المخفي وراء حطام وجهي. ثم سألني: "ما بك؟"
جاوبته بغضب، وكأنه المسؤول عن معاناتي: "لماذا أشعر بقدر لا بأس به من السخط والاستياء في الحياة، واشتياقات لن تتحقق أبداً على هذه الناحية من الأبدية؟"

كان على وشك أن يجيب على سؤالي بسؤال، ولكنه أجاب على سؤاله الذي لم يطرحه، وقال: "لن تكون السمكة سعيدة على الإطلاق بالحياة على اليابسة؛ ذلك لأنها خُلقت كي تعيش في الماء. كما لن يشعر النسر بالرضا أبداً؛ إذا لم يُسمح له بالطيران..."

ولأنه ظن أنني لم استوعب مغزى أطروحته هذه، قال: "وهكذا أنت، لن تشعر أبداً بالشبع الكامل حتى ولو كانت لديك أوقات سعيدة هنا على هذه الأرض؛ فالأرض ليست مسكننا النهائي."

ـ وهل يكفي أن أنام هنيئاً بعد ما قلته، وأنسى معاناتي؟

ـ المعاناة، وُجدت لتمنع الإنسان من أن يصبح مرتبطاً جداً بالأرض، وليدرك بأنه عند الموت، لا يترك مسكنه في الحقيقة، ولكنه سوف يذهب إليه!

ولم يتركني صديقي، إلا بعد أن رأى بنفسه بسمة أمل، ترتفع من رماد وجهي!

وجه الظلام

العصر الفاطمي.
قاهرة المعز.
جبل المقطم.
رأيت من يصعد، ومن يهبط، ومن ينحدر، ومن يظل على القمة.
قال لي المرشد: لقد رأيت قصة بعض الناس، فهل سمعت عن قصة هذا الجبل، وقصة مجيئه إلى هنا؟
وجاوبت على سؤاله، بسؤال:
ـ وهل يتحرك الجبل؟!..
ـ إنها المعجزة!
ـ كيف؟!..
ـ جاء أحد المقرّبين الشاكين المتشككين في إيمان قوم مؤمنين، إلى الخليفة المعز لدين الله، وقال له: "هؤلاء عندهم وعد أكيد، يقول: "لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل؛ لكنتم تقولون لهذا الجبل: انتقل من هنا إلى هناك، فينتقل"!
فكّر الخليفة، وقال:
ـ يوجد جبل يكتنف القاهرة، وإذا أزيح عنها؛ يصير مركز المدينة أعظم، وأوسع!
ثم استدعى كبير المؤمنين، وأمره بتحقيق هذا الوعد الذي يؤمنون به.
وبعد ثلاثة أيام ـ وهي المهلة التي طلبها كبير المؤمنين من الخليفة، جاء بصحبة رجاله، وشعبه، إلى الجبل، وبدأوا الصلاة والسجود لله، فكان كلما رفعوا رؤوسهم، ارتفع الجبل، وكلما انحنوا نزل إلى الأرض، وإذا ساروا سار أمامهم، حتى كادت أن تنقلب المدينة!
ولذلك، أطلقوا عليه: "جبل المقطم" من القطم وهو القطع؛ لقطعه وانتقاله!
ـ ولكني لا أؤمن بذلك؛ فالإيمان رؤية، والرؤية إيمان، قلت ذلك للمرشد.
ولكنه قال معترضاً:
ـ الإيمان هو الإيقان بأمور لا ترى، ثم أن المؤرخ المقريزي ذكر هذه الحادثة في كتابه: الخطط المقريزية.
عدت مرة أخرى إلى الجبل، لعلى أرى الإيمان، وصوت المرشد يتردد في أذني: "الإيمان هو الإيقان بأمور لا ترى"!
كان الوقت ليلاً.. لكني رأيته.. رأيت وجهاً لوجه في الظلام!

أحلام

ذات مساء، قال لي وهو يودّعني: بت أخشى الوسادة، فالموضع الذي جُعل لراحه الرأس، هو ذاته بداية لصراع آخر مع الحياة في الأحلام!
– أليست في الأحلام، راحة؟
– من قال لك ذلك؛ فالحلم الوحيد الذي قد تتذكره، قد يكون جميلاً لا تريد أن تستيقظ منه، فإذا استيقظت على واقعك المغاير، قضيت يومك متأسياً عليه. وأحياناً يكون حلمك سبباً لمتاعبك، كأحلام يوسف الصديق، التي أشعلت حسد إخوته. وقد تكون كابوساً، تجعلك تخشى من كل مجيء لسلطان النوم.
– ولكن، لا بد من الأحلام، ولا بد أن تحلم.
– لذلك؛ فأنا أحب أحلام اليقظة، التي أفرضها على واقعي، وأحققها بنفسي.
– وهل أحلام من هذا النوع، لا تخلو من متاعب وآلام؟ فكم من أناس يسعون إلى وأد أحلامك، وإذا نجحت في تحقيقها، حاربوك حسداً وغيرة. كما أن هناك أحلام كالكوابيس، تكون مؤذية للآخرين؛ ألا تذكر أحلام الإسكندر الأكبر، الذي نظر يوماً إلى السماء؛ فسألوه، قال: “أبحث عن مستعمرات جديدة!”
وافترقنا، ولكن لا أحد منا، يستطيع الافتراق عن أحلامه، ورؤيا رأسه على فراشه.

جنة الألم

كنت أقوم بجولتي في العنابر، عندما شاهدت على منضدة متواضعة، صورة فتاة. فلما رآني المريض الشاب، أشار إليها، وهمس بأنفاس متهافتة:
ـ “أتذكرها؟”.
وقلت مجيباً:
ـ “نعم..”.
كان ما يزال الشاب لمدة عامين كاملين، مقيداً إلى سريره، أثر كسر في عظام ظهره، وقد اعتادت صاحبة الصورة، أن تأتي لزيارته في المستشفى، وتجلس إلى سريره. وفي الدقائق التي تخلو فيها من نوبة رهيبة من ألمه، وتسترخي قليلاً عضلاته، كانت تتشابك أياديهما، ويثرثران، ويتضاحكان، وتنمو مشاعرهما، وتترعرع في جنتهم هذه.. جنة الألم!
وعاد الشاب مرة أخرى، يهمس:
ـ “انها خطيبتي. لقد تركتني حينما رأت حالتي مستعصية. ولكني لا ألومها”!
وترقرقت الدموع في عينيه، وعاد يقول:
ـ “ان هذه الصورة هي النافذة التي أطل منها على أرض أحلامي. أنني أرى فيها: زوجتي، وبيتي الصغير، وأولادي السعداء، وعشي الهنيء.. ولو أنني أعرف أن حلماً واحداً من هذه الأحلام لن يتحقق على الأطلاق!”.
وحينما همت بالخروج، لحقت بي صورته. لقد كان وجهه وسط هذا الأتون المتقد، بمرضه، وهجران خطيبته، تنعكس عليه النيران، فيشع بالنور، المنير: بالرضى، والفرح، والتسليم الكامل لمشيئة الله.

الأسير

تصادقنا في السنة الأولى من الدراسة الثانوية، ولكن الذي حدث في نهاية المطاف، أن صديقي التحق بكلية الطب، بينما أنا التحقت بكلية العلوم التجارية.
لم أشعر بالغيرة، ولكن شعرت حينها أن صداقتنا قد تهددت، وتسرّب إلىّ إحساس بات يغرس في عقلي الشعور الدائم، بأن صديقي الذي التحق بكلية مرموقة، سيتشاوف عليّ.
وللأسف، اتخذت في لحظة طائشة قراراً متهوراً بالابتعاد عنه، فكنت عندما ألمحه في الطريق، هنا أو هناك، أدير وجهي بسرعة للاتجاه الآخر حتى لا يراني، مع أنني كنت أنزع إلى رؤياه في وهج الحنين.
ومرت الأيام... وفي ذات مرّة، مرّ بجانبي بالجامعة، ولكنه لم يلمحني. لم أدر وجهي آنذاك، وقررت أن أنادي عليه حتى أعرف حقيقة ذلك الإحساس، الذي سيطر عليّ طويلاً. وبالفعل ناديت باسمه.
ولم يكد يراني حتى أقبل نحوي لاهثاً بشدة وكأنه كان يركض، وأخذ يعانقني طويلاً، ويسفح على صدري دموع الشوق وفرحة الترحيب، وكأنه التقى منتهى ما يريد!
ورثيت لحالي، ولكل الجهد الذي بذلته في الاختفاء منه، بسبب أفكار مسبقة خاطئة عنه... فلا سجن أسوأ من الظن السيء، ولا خسارة أسوأ من خسارة شخص يحمل لقب إنسان على هذا السيّار الذي نعيش فيه!


تعليقات