المغرب | كالِم الشعيبية
تدرك جيدا أنه يخونها وعلاقاته بأخريات لا تُعد ولا تُحصى، تدرك جيدا أن إشعارات الرّسائل التي تصل واحدة تلو الأخرى غير بريئة وكلها من دخيلات برغبته، تعلم يقينا أن العمل بريء من تأخره المستمر وبريء من زياراته المتكررة لمدينة ما، على علم بما تخفيه جدران تلك المدينة ونشاطات كل من يرافقه، وأن دموعها لا تغسل ذاك الذنب ولا تنفض غباره، تدرك أكثر من هذا ولكنها صامتة، هادئة، قلبها أصبح باردا من ناحيته، تريد القليل من الهدوء في حياتها وأن تنعم بصحة جيدة، قوية بصبرها لأنها تعلم أن طريق منزل والدها كلها عراقيل، طريق وعرة ونقطة الوصول كلها ألغام.
قوية بتضحيتها في سبيل أبنائها وعلى حساب
كرامتها. هو الآخر يدرك أن زواجه تعبير عن بروتوكول، يعرفها، يعرف ما تُسرّه في نفسها،
يعرف أنها
على علم بنشاطاته السرية غير العادية، وأنها تصالحت رغما عنها مع واقع
زوج أزال عتابها المتكرر من على كتفيه، تخلص من نظراتها التي تستقبله كل ليلة بها،
ساذج، خائن بجميع صفات الخونة، مُستمتع بكل ضربة مؤلمة لها، مستمتع بحياة الحرية كما
يظنها وكما يحلو لأمثاله تسميتها، حرية لأنه بعيد من ضجيج منزله، حرية لأنه بعيد من
طلبات الزوجة والأبناء، حرية لأنه غير ملتزم وغير مُجبر للعودة مرة أخرى ولأنه يدوس
بهدوء عنيف على زهرة اختفت ألوانها في أرضه، حرية لأنه يعيش حيوات متجددة بتجدد مصروف
جيبه وطبيعة مزاجه، يتقن فن التعذيب البارد ذي الألم الصامت، يُتقن جيدا لعبة الزوج الصالح أمام مرأى الناس.
كثيرة هذه الحالات وكلهن صامتات لأسباب ربما
لا نعلمها أو نجهل بعضها.
تختلف الخيانات باختلاف أصحابها، فواحد يدمن
الدردشة مع أخريات، إشعارات متتالية لا تتوقف وصور تُرمى بين الرسائل فتسقط عبارات
المدح والتغزل بحدود جسم امرأة أخرى ورشاقتها، بجمالها الاستثنائي، وشعرها الحريري
الذي يجعل منها أنثى غير البقية، وتصبح الجميلة الوحيدة التي رآها ويعرفها في عالمه
الصغير الذي لا يعرف حدوده غيره، عالمه البريء والخالي من بنات حواء، وحدها من فازت
بلقب الملكة المتربِّعة على عرشه.
آخر سهراته لا تنتهي، تحت غطاء العمل وضغطه،
يده في يدها ويتجولان بين الشقق وغرفها، يعيش حياة أخرى يدَّعي فيها المثالية والشهامة
والرجولة التي يفتقدها أمثاله على حد تعبيره ووصفه ليُصبح البطل الخارق، الذي أتت به
الصدف في عالمها، لا يكترث لشيء يعيش على أمل الحب واللحظة التي يستمتع بها رفقة إحداهن،
غير بخيل في مشاعره ولا يفكر في أي شيء يعكر صفاء ذهنه، يعيش اللحظة فقط.
بطل
آخر يضع رجلا على رجل يراقب بأعينه تلك التي تمر بجانبه حتى تصل لمكانها، ويأتي بأخرى،
وهكذا يمر يومه يسبح بنظره بين النساء في الشارع. وآخرون من نفس الفصيلة
لا يكفي عدّهم وتصنيفهم وإعطاء اسم لخيانتهم.
هؤلاء الأبطال، الاستثنائيون، فور دخولهم
لمنازلهم يزيلون عباءة المثالية، هناك يسقط القناع ويظهر الرجل الشرقي الذي لا يجيد
غير السب والشتم، هاتفه على الوضع الصامت، منطقة محرمة لا تقربها الزوجة، هو علبة أسراره
وصندوقه الأسود. يأمر، ينتقد، وبعدها يبدأ في المقارنة بينها وبين أخريات، مُتسلط وسيّء
الطباع ومتمرد على ذاك الكائن الضعيف، يُفقدها الكثير من الأشياء، يغيب ولا يكترث لأمرها
وهذا إنكار واضح لوجودها، وهي ماذا عساها فاعلة؟ صامتة، ربط المجتمع يديها، ووضع كل
قوته على فمها، لتقف مجبرة على السكوت.
مجتمع هو في الأصل ذكوري، بصم سابقا الخطأ
على جبينها قبل مشاكلها والبوح بها، كبَّلها بكل الأغلال وأقنعها أن صمتها صبر له جزاء،
وجزاؤه جميع أنواع الأمراض النفسية، تعيش مغلوبة على أمرها وَسَط تجربة صعبة عاطفيا،
وحيدة تُعارك الحياة، كاتمة أنفاسها، تخفي كل همومها وتُظهر القوة على الرغْم من الانكسار،
تحاول جاهدة إعادة ترميم ما أفسدته صبيانية الزوج، ولو على حساب صحتها وكرامتها، ولكن
النزوات تزداد فتتحول من العابرة إلى عادة وحاجة ضرورية له.
الغريب أن مجتمع الرجال هذا يختلق أسبابا
لا يستوعبها العقل، لتبرير ما يقوم به بعضهم، العائلة تبرر أيضا وتقوم ما يقوم به المجتمع؛
تحثها على الصبر وعدم هدم بيتها بنفسها، بيتها الذي في الأصل لا توجد به مواصفات البيوت،
بارد خال من الحياة.
جميع الأطراف المحيطة بها تدفعها للغرق من
جديد، وتتركها تتخبط بيديها مُحاولة النجاة ولكن دون جدوى، تتقبل الوضع وتعيش فيه على
أمل أن يغير الله ما في نفوس الرجال، على أمل أن تحدث معجزة تعيده للطريق وتفتح أعينه،
فأمامها الأبواب مُحكمة القفل
والحلول منعدمة، فغير الصبر، الباقي مجرد
أفكار مراهقة، يسمونها فضيحة، وهي غير قادرة على أن تُغطى الحلول المنطقية بسلهام
"الفضيحة"، وألا تكون عبئا وهَمّا على عاتق والديها ومجتمعها.
المجتمع الذي لا يؤمن بفشل وعدم نجاح التجارب، لا يحسن الظن، ولا يراعي الظروف، يعتبر الزواج مقبرة لها رغم لدغاته اللاَّسِعة، وهي أمام هذا السجن ستفضل وتقبل العيش في بيت بدون جدران والذي فُرضَ عليها، ستُقاوم وتتنفس تحت الحُطام، بدل اختيار حلول تضعها موقع صاحبة الخطإ، وتُكسبها ألقابا تقلل من احترامها وتضع كرامتها تحت أقدامهم.