📁 تدوينات جديدة

رسالة الوردة | قصة: جواد عامر

عاصفة هوجاء، إعصار حارق، ماتت الورود جميعها واحترق الحقل، لا نحل ولا فراش، المكان يفترش الخراب، صمت رهيب يمزقه صوت كأنه البكاء، نظرت في الأرجاء، لا شيء ثمة إلا معان لأبنية دكها الإعصار...


أخذت في الذبول وحيدة في حقلها الواسع، تبحث عن قطرة ماء تروي الظمأ، فراشة ترفرف بجناحيها، فرت من وسط أكوام الرماد، تبلل جسما بدأت ألوانه تفقد رسومها وتنثر القطر في موضع الوردة، مرت أيام، بدأت الوردة تستعيد نبض الحياة، تفتحت، عطر يفوح أنسى الفراشة شيئا من ريح الحرائق، بدأت أسراب من النحل والفراش تفد لتلثم الوردة فتناسلت... امتلأ الحقل بالورود ودبت الحياة...

عاصفة هوجاء، إعصار حارق، ماتت الورود جميعها واحترق الحقل، لا نحل ولا فراش، المكان يفترش الخراب، صمت رهيب يمزقه صوت كأنه البكاء، نظرت في الأرجاء، لا شيء ثمة إلا معان لأبنية دكها الإعصار... غصن يتحرك من وسط ركام هائل، فغرت فاهي من ذهول، برعم يزحف فوق الغصن يمتص ندى المساء، يكبر رويدا رويدا، يصير طفلا ممشوق القوام، له صدر مندفع كأنه يتأهب لصد عاصفة، يمسح دموعه بكلتا يديه المعفرتين بالتراب، يمضي بحزم وسط الركام، يدوسه بقدميه الصغيرتين الحافيتين، لا يكترث للخدوش وألم الدوس على الناتئ من حجر والحاد من حديد أو معدن آخر عبث به الإعصار، كأني أرى وحشا كاسرا في جسم طفل، أحس كأن ظلا يتعقبه خزر بعينيه ذات اليمين وذات اليسار، فأسرع خطواته غير آبه بالأشياء، وصل حقلا واسعا ووقف يتأمل ثم استدار في لحظة خاطفة نحوي وقال : أنت ما شأنك بي؟ لماذا تتعقب خطواتي؟ ألم تر ما صنعوا بنا نحن -الأطفال- على مرأى منكم وأنتم ترقصون على الجثث؟ اُغرب عن وجهي، هيّا!

حمل في كفه حجرا وأراد أن يرميني به، فتراجعت القهقرى قليلا وهدأت من روعه، فأمرني بالابتعاد فقلت: لا تخف... أنا مثلك عربي، مات لي طفلان أبحث عنهما وسط الركام، وماتت كل أشجاري واحترقت أغصاني وورودي، أنا مثلك يا بني فقدت كل شيء، منذ البارحة وأنا أبحث لعلي أجد ظلا لولديَّ، لم أجد شيئا سوى أشلاء وذباب يحوم فوقها، وجثث فقدت معالم الإنسان مثلما كانت فاقدة له وهي على قيد حياتها.

سكنت جوارح الطفل ودنا مني، وضع رأسه على بطني، مسحت على خصلات شعره العربي الأسود، مسحت دمعات سقطت على خده المعفر بالتراب، وقال بنبرة حزينة: لقد أتى الإعصار على كل عائلتي، أحرقهم مثلما أحرق أصدقائي الذين كنت ألعب معهم، وأشار بطرف أصبعه إلى سفح تلة هناك وقال: حتى المدرسة التي كنا نلتقي فيها دمرها الإعصار.

سرنا معا فوق الركام نبحث عن شيء ضائع، عن أي شيء ينطق بالحياة أو يصلح ليقيم الحياة، لا شيء ثمة تركه الإعصار... وردة ممشوقة القد وحدها هناك، اختبأت بين حجرين، لابد أنّ الإعصارَ لم يرها فنجَتْ، اقترب الطفل منها واشتم عبقها مرات ومرات، إنه ينفض عن أنفه رائحة الإسمنت والغبار، جلست بقربه وجعلنا معا نتأمل الجمال الذي لازالت ترسمه الوردة، ونشتم معا ذلك العبق الفواح فقلت له: أرأيت، كيف أن هذه الوردة بقيت حية رغم كل هذا الدمار؟ هل تدرك ما يعني ذلك يا بني؟

نظر إلي الطفل نظرة تستحث الجواب وقال: أخبرني إذن...

فقلت: إنها تحمل إلى الإنسان رسالة التشبث بالحياة، فمهما حصل يا بني فإن الأمل يلوح دوما في الأفق، سيزول الخراب وسيعود الحقل إلى سابق عهده يزهر ورودا، ويحوم النحل والفراش في كل الأرجاء، وتعود الطيور للغناء من جديد.

تفرس الطفل في ملامحي وقال: لكن لماذا أتى علينا الإعصار وأحرق كل شيء، وكان بإمكان العالم أن يوقفه فلا يحرق الإنسان ويحرمني أمي، أبي، إخوتي، طفولتي، ألعابي؟ كل شيء صار جزءا من الخراب.

صوت يدوي من وسط السماء يقول: لقد أغمض العالم عينيه لأنه كان متعبا يا بني، فما لبث أن غط في نوم عميق، فلما فرك عينيه وجد الورود والأشجار هلكى، وها هو لا زال يرقص ويطبل ويدندن خطبا بليغة...

تمسك الطفل بي والرعب يسري بداخله، هدأته وأنا أمسح على رأسه، فأخذ يذوب رويدا رويدا حتى اختفى من بين يدي وصار برعما تخفى في داخل غصن صغير، سرعان ما اختفى بين ركام قريب من الوردة الناجية، بقيت متجمدا في موضعي أحاول استيعاب ما يجري، فمدت الوردة لي يدها وهي تحمل رسالة كتب عليها: "أيها العالم البائس، تركت الأطفال يموتون جوعا، تركتهم يئنون تحت الركام، يتفحمون، يتمزقون، يذبلون، يبحثون عن كسرة خبز وسط التراب، عن شربة ماء حفظتها شقفة طين كي ترقص أنت وتطرب، أفق من غفوتك..."

أخذت الرسالة، عطرتها بعبق الوردة وخبأتها في صدري وانطلقت فوق الركام جريا لأقرأها فوق تلة هناك، فتحمل أصداءها الرياح.

جواد عامر | المغرب
تعليقات