📁 تدوينات جديدة

النقد العربي من حكم القيمة إلى المعيارية العلمية: قراءة في تحولات الممارسة النقدية | جواد عامر

النقد العربي من حكم القيمة إلى المعيارية العلمية

المغرب | جواد عامر

مارس الناقد العربي رغم اختلاف تكوينه الثقافي وممارساته المعرفية نقدا تحكمت فيه السليقة والذائقة والطبع، فأصدر أحكاما قيمية جزئية لم تكن تتعدى البيت من الشعر أو بضع أبيات منه، يوجه دفة نقده دون تحكيم معياري يقوده الانطباع الذاتي المتوقف عند حدود اللغة والمعجم والصياغة والعروض والمعنى، وقد يكون الناقد حينها شاعرا يخبر أسرار القول وقد يكون متلقيا عاديا تحركه الذائقة العربية فيستحسن القول أو يستهجنه دون أن يعلل الحكم الذي يظل إصداره حبيس فهم وإدراك نفسي نابع من الذوق الشعري لا غير، وكان مشتهرا في العصر الجاهلي ضرب القبة الحمراء للنابغة الذبياني الذي كان يحكم في شعر الشعراء ويبدي موقفه النقدي من هذا القول وذاك، تنشده الخنساء وينشده الأعشى فيرفع من قدر شعر أبي بصير وينشده حسان فيقوم الصياغة وينقح الألفاظ لتستجيب لمقام البلاغة وتتواءم مع مقام الكلام الذي كان يستدعي الكثرة بدل الإناث السالم في قوله :

لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى *** وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

حيث اقترح النابغة أن يقول: الجفان جمعا مكسرا بدل الجفنات لأنها للقلة ويقول سيوف بدل أسياف واقترحت الخنساء أن يستعمل البيض بدل البيض والدجى بدلا عن الضحى، كل هذا نابع من ذوق شعري تحكمت فيه السليقة والطبع الشعري، فلم يتجاوز النقد العربي حدود هذه الممارسة القيمية في العصر الجاهلي حيث حضر المنهج المقارن في صورة تقليدية مبسطة عبر الموازنة بين الشعراء والحكم على البيت الجيد والبيت الرديء حكم قيمة لا غير، فكان عقد الموازنات تحت القبة الحمراء أمرا جاريا مثلما عقدت أم جندب موازنتها الشهيرة بين علقمة الفحل وامرئ القيس في وصف الفرس ومنحت التفوق لعلقمة على حساب زوجها لفساد المعنى عند امرئ القيس الذي أدرك فرسه بضرب السوط وتحريك الساقين بينما علقمة أدركها دون ذلك لما قال:

فأدركهن ثانيا من عنانه *** يمر كمر الرائح المتحلب


أما امرؤ القيس فقال:

فللساق ألهوب وللسوط درة *** وللزجر منه وقع أخرج مهذب

ونحن نسوق هذه القصة ونعلم ما أثارته من زوبعات في النقد العربي من حيث الصحة أو عدمها لما تبرزه من حكم تعليلي سابق على التاريخ وغير منسجم مع طبيعة البيئة التي أنشأت حكما نقديا ذا طبيعة قيمية لا تكاد تتخطى حدود التعبير عن البيت بالجودة أو الرداءة أو الحسن أو القبح وما شابه هذه من أحكام القيمة، لذلك تبقى قصة أم جندب حدثا نقديا إن ثبتت صحتها فريدا من نوعه لأنه سيظل الحكم النقدي الأول في التاريخ العربي الذي نسمه بالروح العلمية لما قدمه من نزعة تعليلية مرسيا دعامة من دعامات النقد التحليلي والوصفي، وبذلك فهي استثناء شذ عن القاعدة الأم في العصر الجاهلي الذي ظلت غالب ممارسته النقدية قائمة على الذوق والطبع والسليقة.

لذا فالناظر في النقد خلال العصر الإسلامي سيجد أنه ظل حبيس الزاوية ولم يستطع أن يبرح مكانه الذي تثبت في العصر الجاهلي، اللهم بعض الملاحظات النقدية العميقة والنافذة التي أبان عنها الحدس النقدي الذي تمتع به عمر بن الخطاب لما سئل عن سر تفضيله لشعر زهيربن أبي سلمى فأجاب قائلا : "إنه لا يعاظل في الكلام ولا يأتي بالحوشي من كلام العرب ولا يمدح الرجل إلا بما فيه." إذ يمكن اعتبار هذه البداية الحقيقية لإرساء دعائم النقد العلمي في المحضن الثقافي العربي، غير أن النضج الإبستمولوجي لم يكن متأتيا خلال العصر الإسلامي بحكم الانشغال الكبير في توسيع رقعة الدولة عبر الفتوحات، ومن قبل الانشغال في إرساء أسسها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والروحية، فلم تكن الظرفية التاريخية بحمولتها الثقافية التي لا زالت متسمة بنوع من الانغلاق تسمح لتوسيع دائرة النقد والانتقال به إلى درجات من الممارسة العلمية لتمنحه الطابع المعياري الذي ظل يفتقده طوال قرنين، ليدخل النقد العربي مرحلة جديدة مستلهما عصارة الثقافات الجديدة التي انصهرت في بوتقة البيئة العربية وأسهمت في اغتناء الثقافة العربية، حيث كان لترجمات كتب فارس والهند واليونان دور كبير في إرساء معالم ثقافية جديدة تغذت بروحها ثقافتنا العربية واستلهمت ما توافق مع البيئة والروح العربية ووظفته توظيفا غاية في الدهاء لتتمكن الممارسة النقدية من اكتساب الروح العلمية والمنهجية التي ظلت بمنأى عنها في العصر الجاهلي والإسلامي، إذ سيكون للصراع الكلامي المتأجج بين الأشاعرة والمعتزلة وأرباب الملل والنحل الأخرى التي دخلت في الإسلام المنتصر أثر آخر سيذكي روح المنطق والحجاج والخطابة وسيدفع بالممارسة النقدية إلى أبعد الحدود الممكنة، حيث كان استلهام المنطق الأرسطي والبلاغة الأفلاطونية والخطابة اليونانية وروح الفلسفة عموما وبقية العلوم: فلك ورياضة وطب وغيرها، استلهاما واعيا وظف ميكانيزمات مهمة في بنية النقد العربي ظهرت بجلاء في كتب النقد الوازنة في التراث العربي مثل العمدة لابن رشيق القيرواني، الشعر والشعراء لابن قتيبة، ونقد الشعر لقدامة بن جعفر، وما ضمته كتب تراثية ضخمة من متفرقات نقدية هنا وهناك، مثل البيان والتبيين للجاحظ، سر الصناعتين لأبي هلال العسكري وغيرهما من المظان، فقد عاش هؤلاء جميعهم في بيئة عربية شديدة الاغتناء الثقافي، واستطاعوا أن يمارسوا فعلا نقديا لن نقول إنه كان بعيدا عن الانطباعية والذاتية، وإنما كان نقدا تحرى نوعا من الموضوعية العلمية من حيث المنهج المتبنى، القدرة التحليلية والتعليلية التي ظهرت بقوة في نقودهم والتي نمت عن وعي إبستمولوجي رصين بما ينبني عليه النقد رغم أن الفترة التاريخية ميزها الصراع القوي بين القدماء والمحدثين، والتعصب طرف دون الآخر، كما نجد عند أبي عمرو بن العلاء والأصمعي وابن الأعرابي، إذ كان التيار شديدا يومها وكان من الصعب على النقاد أن يمارسوا نقدهم بغير تأثر وانحياز، وهو ما نستطيع أن نلحظه في موازنة الآمدي بين الطائيين من حيث ميله لشعر البحتري وتفضيله على أبي تمام في مواعدة من الكتاب، وإن حاول كما أبان في منهجه أن يبين أنه على درجة من الحياد ظهر إنصافا لأبي تمام مرات عديدة، غير أن ذلك لم يكن ليشفع له في الانحياز لشعر البحتري لأنه جاء على الطبع وسهل الهم لا غموض يشوبه ولا تعقيد فيه، كما هو شأن شعر حبيب بن أوس الذي كان يحتفي بالبديع أكثر، فكان ذلك طريقا لإفساد أغلب معاني شعره. ويظهر ذلك أيضا في وساطة الجرجاني وهو يمضي قدما في كتابه من أجل إنصاف المتنبي الذي احتفى بالاستعارات أكثر من غيره، رغم أنه أعلن هو الآخر عن موقف الحياد، غير أن نزعة الميل لشعر المتنبي كانت أقوى منه، فلا يكاد قارئ الكتاب يخطئها.

إن الممارسة النقدية العربية سلكت كأي فعل علمي في التاريخ منطق التسلسل، وإن تحكمت الرؤى الإيديولوجية في الممارسة أحيانا، إلا أن القطيعة لم تجد لنفسها موضع قدم في التاريخ النقدي العربي، وإنما ظهر جليا على أن كل مرحلة كانت تمهد للاحقتها في نوع من الالتحام والتكامل خارج منطق القطيعة الابستمولوجية التي احتفى بها غاستون باشلار وهو يتحدث عن تاريخ العلم، منطلقا من دائرته الضيقة التي خصت ثورة الفيزياء في عصره، فإن النقد العربي تدرج في بناء أسسه المنهجية والتقاط أدواته الإجرائية بدرجة عالية، مستفيدا من العبقريات العربية المتفتقة التي أحسنت التعامل مع الوافد الثقافي واستطاعت أن توظف ميكانيزماته توظيفا علميا صحيحا من أجل خدمة الممارسة النقدية التي استطاعت أن ترسي دعامات نظرية لا تغيب حتى عن الممارسات النقدية الحديثة.

تعليقات