أي اندهاش هذا الذي دفعني للوقوف إجلالاً واحتراماً لهذه الأنثى التي تقدم دروساً مجانية للأمهات...
هنا بالعاصمة الإسماعلية، تحديداً بمقهى برستيج بالاس مركز المدينة، طاولة تعلوها قهوة سوداء وقنينة ماء، أقلام متناثرة وأوراق بيضاء لتدوين أفكاري الشحيحة. خطفني مشهد بهيّ بساحة سينما "كاميرا" حيث رأيت هنالك أمّاً تعلم ابنها كيف يطعم الحمام، تعلمه الرفق والسلام، تعلمه كيف يُغذي الطيرَ ويزرع الخيرَ. نِعمَ الولد أنت، ونِعمَ الأم أمك.
أي اندهاش هذا الذي دفعني للوقوف إجلالاً واحتراماً لهذه الأنثى التي تقدم دروساً مجانية للأمهات المكناسيات خاصة، والمغربيات عامة. حقيقةً نحن بحاجة لمثل هكذا أمهات، يعلمن أبناءهن الحب والسلام.لم أنته بعد من تصريف مقلتي هنا وهناك حتى وقعت على مشهدٍ معاكسٍ لما رأيتُ من قبل، حيث هنالك في الجهة المقابلة عربيدٌ يرمي النساء بكلمات نابية، ويتحرش بهن، يعنفُهن لفظاً ومساساً. بين المشهدين أدركت سبب فساد المجتمع وفجوره، فالأول يجسد الأخلاق والقيم، والثاني تجرد من الإثنين وصار مجرماً يعترض سبيل المارة.
لبرهة نزح العربيد باتجاه معلمة إطعام الحمام، فأفسد اللوحة التي كانت ترسمها بألوان الأمن والسلام. هاجم تلك التي تستحق كل التقديس، كونها العنصر الأضعف الذي لم تزوده الطبيعة بالمخالب كما زودت النمر، وبالقرون كما زودت الثور. كشّر عن أنيابه ليفترسها، لأن الطبيعة زودته بالعضلات وصار يتسلط على الشريفات العفيفات.ليس بالضرورة أن يكون له أب ينتسب إليه، لكن لاَجَرَمَ أن له أما قد حملت به، ولم تنبته الأرض أو سقط من السماء، في جميع الأحوال قد تعلق بمشيمة ما وكبر فصار بعبعاً. في لحظة التجلي والصفاء، اتضح لي الفرق بين الأمين وضوح الشمس، الأولى ولدت ثم علّمت، والثانية ولدت ولم تعر الاهتمام، بل أرضعته حليب الفجور والإجرام، علمته الانحراف منذ صغره، ولما بلغ أشده خرج للممارسة ما رَبّته أمه عليه، فصار غولاً يخشاه الجميع، ليس بسبب بِنيته الجسمانية، بل بسبب التنشئة الاجتماعية التي تكوّن فيها وصار على إثْرها دكتورا في عالم الفجور.
بينما أنا أخطط في أوراقي هاته المفارقة العجيبة، سمعت صوتاً أشبه بفرامل السيارة، وحين خطفت ببصري لأرى ما يقع بالساحة، بصرته ارتطم بالأرض، سيارة سوداء قائدها مخمور صدمته، فلقي هند الأحامس، وأتته القاضية، والشَعوب، والمنية، والمَنون والموت بجميع أسمائه العشرين. شتان بين أم سهرت على تربية أبنائها تفخر بهم ويفخرون بها، وأم ثُكلت بوحيدها وصارت ثكلاء بسبب سوء تربيتها. قُتل لأن المجتمع يحتاج تطهيراً من هؤلاء، فضرب الله الظالمين بالظالمين وأراح منهم الناس أجمعين.