على مقعد ما في الحديقة، وآلاف الأغصان المتشابكة مشكلة غابة صغيرة يتخللها ضوء الشمس المنطفئ في أعماقها حيث تبتلعه الظلال الذي شكلت تشابك الأغصان، هنا مات الضوء والزمن بركنيه الماضي والمستقبل، ليظل الحاضر يملك زمام نفسه متجمدا على شكل ورود منتشرة ما بين الأشجار وعلى جوانب الشلال الصغير الذي صنعته أيدي مهندسين شباب من أبناء الحاضر، يمر الوقت وشعاع الشمس يصغر مكونا ظلالا بلا تعب وغير مكترث للأعين الباحثة عن الجمال بصمت، فكل شيء يحيطه صمت موحش، ولأن الراحة تكمن في الصمت والسكون، لدرجه ان من يقف في الظل لا ظل له ولا صوت، سوى الوحشة والغربة، ولذا لا يجرؤ أحد على دخول الحديقة حينما يسدل الليل ظلامه عليها، خاصة إذا الأضواء توقفت عن الإنارة، فتصبح ككهف ليس له نهاية وليس هناك ثمة مخرج، لأن الظلام عميق جدا، فتبدو الحديقة عندئذ كوحش عملاق يفترس كل الداخلين إليها بالخوف والرعب من حركة الأغصان المتشابكة وأصوات تساقط الفروع والأوراق وحتى تمدد الفروع مصدرة صوتا يرعب كل من يمر من قربها، الأشباح تحوم حولها وفيها والأصوات تتوالد وتنمو طوال الليل، همهمات عميقة، صمت عميق أعمق من الصمت نفسه، مليء بروائح الورود وكذلك بالعفن، وتحت سقف الأشجار تنمو الأصوات فتوقظ الحديقة من رؤية أو حلم غفت عليه منذ بدء النهار، أما الهواء فإنه يعبرها إلى الجهة الأخرى منعشا، باردا، ومفاجئ الورود بقبل وآهات العشاق ورطوبة شفاههم، ومن خلف الأشجار تنفتح السماء صافية بقمرها المنير ونجومها المتلألئة، تسقط ما بين الأغصان لتصبح كلمات يتداولها المحبين، كلمات عذبة، رقيقة، مجنونة، هامسة، بإيقاع موسيقى لسمفونية رشيقة تسمع من الأماكن العالية في السماء، في داخلها كلمات تغرق الممرات بعذوبة وسبات عميق في ظلمة الليل، لكن الضباب مع أول تباشير الفجر لابد أن يتبدد وتظهر حقيقة الغابة جليا، وتحمل الأوراق والأعشاب قطرات الندى تبلل بها أجسادها قبل أن تغزوها الشمس بحرارتها، ولأنه كان يراها عذبة كقطرة ندى، جميلة تعانق الأوراق بعينيها، وتشرب خضرة الأعشاب بذرات جسدها كلما استلقت عليه، إن قطرات الندى تجلس على الأوراق كدمع من عينيك، فلما تبدين شاردة بعينيك عن الغابة أيتها الأشجار الصغيرة الممتلئة بالذكريات، لما عيناك تقولان شيئا لا أعلمه، إن عينيك تدمعان كدموع قطرات الندى على الأوراق فتبرقان بضوء الشمس، وجه لرجل وربما امرأة، وقد يكون حيوانا يطل من نافذة مفتوحة على عالم الحديقة الغابة، مشهد مبهم فيه مصطبة حجرية مصبوغة بالأخضر، تجلس عليه تلك الفاتنة بثوبها الأرجواني وشعرها بلون الذهب ووجهها كالثلج ببياضه وبعينيها الواسعتين تحدق بالفراغ، تلفظ كلمات لا تصل سمعه ولكنها ترتد من جذوع الأشجار لتترك صدى في الغابة تنصت إليه الطيور والعصافير وحتى الأزهار، مشهد يتوالد مع كل كلمة ونغمة تنبثق من فمها وفمك نحو الفراغ، الكلمات تضئ قمم الأشجار وتتسلل من بين الفروع المتشابكة، نقية، مبهجة، تتألق لتصعد نحو الشمس تعانق شعاعا يدخل إلى الحديقة ليعانق وجه الفتاة الظل الساكنة على المصطبة، عند الغروب الذي برقد بلونه الدموي على الأوراق وينصت للأصوات التي تأتي من العمق، كأزيز الريح العاصف تنطلق الحمائم دفعة واحدة لتعود إلى أعشاشها، تاركة الحديقة في غفوة قبل المساء، ثقيل وغادر ليل المكان بظلمته وخوفه، كما يقال، نظراته لا تغادر الحديقة من النافذة، يتابع بعينيه بدء خمول الحديقة وتثاؤبها بالضباب الذي حط عليها وهي تغادر النهار نحو الليل الأسود، الظلال داخل ممراتها تشع بعتمة خفيفة، وبنقاء المساء، لا حياة فيها سوى السكون، الصمت المنخفض أمام همهمة الريح الحالمة بمعانقة الأشجار وخلخلة فروعها وإسقاط أوراقها الميتة الصفراء عن جسدها، يراقب كل الحركات والسكنات والأصوات واللعنات، الظلال تدور في الممرات، فانوس ما ينبثق ضوؤه الخافت في عمق الزاوية من الحديقة حيث لا حياة سوى للظلال وصوت الريح، تنحني الأغصان، بعينيه يراقب كل شيء منتظرا كما الطفل الصغير ينتظر بفرح عودة أبيه كي يمنحه الهدية فيحتضنها وينام، لأنه لا يقدر على الانتظار إذ لم تصل الهدية، وإذ تنهال الظلال عبر الضباب فإنه ينصب الخدع للإيقاع بها قبل أن ينجلي الليل، ما زال الفانوس ينشر أنواره الخفيفة على جذوع الأشجار القريبة، وينفلت من بين أغصانها نحو السماء، لكن حينما يدخل المساء فإن الحلم يبدأ بالظهور قدام نافذته، إنه يقرأ ما كتب على الأوراق الساقطة المصفرة، يلتقطها واحدة واحدة ويقرأ:
يدق القلب ويشع للذي يقرأ أعماق الروح
عندما يغيب الماضي تجد المستقبل مرسوما على جبينك
عندما يدخل الظلام إن لم تشعل شمعة، فقد يغمر الظلام روحك
كان يقرأ حاضره بعيدا عن ظلال الماضي، لأن ه كما يقول لا ينتمي للأمس أبد.
مازالت روحك تبحث وتنقب عن عينيها فلا تجد إلا لمسة أصابعها على وجهك، وكلماتها تسقيك ماء الحياة.
ستظل تبحلق في العتمة حتى يشرق في عينيك نور القمر
العاصفة تحيطك من كل اتجاه وتعصف بالأشجار لتنثر الكلمات على أوراقها.
الليل يزحف نحو الفجر الذي بدأ يرسل نوره على رؤوس الأشجار ويتسلقها نافذا من فتحات الأغصان، الظلال تغادر الحديقة والظل في النافذة يصمت عن انتزاع الكلمات من الضباب ونثرها عبر الريح في كل الأرجاء، يتسرب الصمت في الممرات وتخطو الأقدام عابرة الحديقة المتشابكة الأغصان، عندئذ ينسحب ظل آلان روب غريبيه من وراء النافذة ليختفي للأبد.