المغرب | عبد النبي بزاز
كما عودنا الأديب المغربي مصطفى لغتيري في كتاباته السردية بالخصوص على نهج أسلوب التنويع والتجديد في اختيار "التيمات"، والعناصر التي تتشكل منها قصصه ورواياته فقد نهلت روايته "تراتيل أمازيغية" من الأمازيغية كتيمة ومكون يمتلك مرجعية تاريخية وثقافية ضمن مكونات الموروث المغربي الموسوم بالتنوع والتعدد بحيث تشكل نسيج الرواية في جل مراحلها من بناء الأحداث وتطورها وتطويرها، وما يجمع الشخصيات من علاقات قائمة على التجاذب و التنابذ، التواصل والتنافر داخل نسق غني بجوانبه التاريخية والأسطورية المنصهرة في بوتقة من توترات وصراعات وتشنجات أفضت إلى مآسي، وتمخضت عن مسرات توزعت بين وقائع حافلة بمفارقات لم تخل من ود وجفاء، وعشق وكراهية، وصدق وخداع ... صيغت بطرائق تأرجحت بين الواقعي والغرائبي، الحقيقي والأسطوري مما أكسبها ميزات جمالية ودلالية تزخر بحمولات ذات أبعاد رمزية وفنية مشرعة على تعدد الرؤى، واختلاف أوجه القراءة والتأويل . ولعل الملفت في الرواية هو التيمة الأمازيغية في تعالقها وتواشجها بأحداث تاريخية، ووقائع ذات طابع أسطوري حافل بمظاهر غيبية عبر تمظهرات غرائبية مما يخلق أجواء فانتاستيكية من خلال تجشم مخاطر تحديات محفوفة برعب المغامرة، وأهوال المجازفة. فموضوع الأمازيغية يبصم جل أطوار الرواية وفصولها من عتبة العنوان "تراتيل أمازيغية" إلى آخر فصل مرورا بأسماء الشخوص ك غيلاس، وإكيلي، وتوزين، وتوسمان، ويفاو. ووضع الشعب الأمازيغي وما يطبعه من تشرذم وتفرقة: "تلك الحكايات عن شعبنا المتفرق في بلاد الدنيا.. حكى لنا بفخر، بأنه أينما حل وارتحل وجد لنا إخوة من الأمازيغ يعيشون في الأرض الواسعة..." ص 41، مما قوى لدى غيلاس ابن الملك الأمازيغي حلم جمع شتات الأمازيغ، ولم شملهم ليغدوا أكثر قوة وتلاحما: "يداعب خيالي حلم.. يصر علي أحيانا، لكنه يمر عابرا في أحايين أخرى، حلم في أن يتحد هؤلاء الأمازيغ في دولة واحدة، يتوحدون فتقوى شوكتهم، وتكون رادعة لأمم الشمال التي تستقر ما وراء البحر، تلك التي يستهويها الغزو، فتوجه جيوشها نحو بلادنا الضعيفة المتفرق أهلها ودولها وقبائلها ..." ص 42، وتعتبر شخصية غيلاس خيطا ناظما لشبكة عناصر الرواية، ولمسار سياقها وما عرفته وقائعها من تقلبات وتغيرات، وما عاشه شخوصها من توافق وتنافر، وتقارب وتباعد ساهم في إغناء نسيجها السردي، وتوسيع آفاقه وتشعبها بحيث رسمت صيرورة الوقائع، وحددت مناحي تشكلاتها وتبدلاتها، رغم ما و سم شخصه (غيلاس) من معاناة متعددة الدواعي والخلفيات، انطلاقا مما كان يطوقه من وحدة، وتوقه إلى العثور على رفيق يؤنسه، ويبدد عنه ثقل هواجس العزلة، ويخفف من وزر هواجسها وهمومها كما أسر بذلك: "الحنين إلى رفقة إنسانية ظل يؤرقني، ولازمني هذا الأرق لمدة طويلة ... كلما تقدمت في السن شعرت بالحاجة القصوى إلى رفيق يشاركني أحلامي وطموحاتي وهواجسي.." ص 23، وهو ما لم يف به حصانه «أودجاك»، ولا أبناء المملكة الذين لمس عدم صدقيتهم المتمثلة في أشكال المجاملة والنفاق التي يبدونها إزاءه كما عبر عن ذلك: " لم تغرني رفقة أحد أبناء المملكة، لقد كانوا ينافقونني، ولا أشعر أبدا بالصدق في حديثهم.. كانوا يعاملونني كملكهم المستقبلي، أو على الأقل كابن ملك، وهذا ما ضاعف من حسرتي، وجعلني أكتفي بوحدتي، حتى «أودجاك» حصاني الذي اكتفيت بصحبته زمنا طويلا، لم يعد يلبي رغبتي في البوح والمشاركة.. اقتنعت أخيرا أنه مجرد حيوان، حتى وإن كان يمتلك الكثير من المزايا، التي تخفف عن نفسي كلما داهمها التوتر والضيق.." 24، إلى أن قادته الصدفة للقاء فتى أسر عقله وقلبه فانجذب نحوه بدافع إحساس قوي وغامض واعتقاد بأنه يبادله نفس المشاعر: "شعرت أنه قد وقع في قلبه مثل ما وقع في قلبي.." 27، فسارع في تحريره من العبودية ليتأكد بعدها أن ميولاته العقلية والنفسية إزاءه لم تكن خاطئة حين علم بأنه ابن ملك تعرض للأسر وأطلق عليه اسم "أوسمان"، وأهداه حصانا أسماه "تليلي" ليعرف تفاصيل قصة وقوعه في الأسر عندما تاه في رحلة صيد فاعتقلته عصابة قناصين وباعوه إلى تجار عبيد إلى أن انتهى به المطاف في مملكة والد غيلاس الذي حرره واتخذه خلا حميما وصديقا وفيا، فتطورت علاقتهما وتوطدت عراها رغم ما شابها من صعوبات؛ كلغة التواصل: " سعلدتي بأوسمان لا تعادلها سعادة.. فقط عكر صفوها اللغة، لم نكن نتواصل بالشكل الكافي.." ص 37، إلا أنه أمام رغبتهما الجامحة في تمتين وشائج هذه العلاقة سرعان ما تغلبا على ما جابههما من صعاب واستشكالات حتى تمكن أوسمان من إتقان اللغة: " هكذا تحدثت مع صديقي أوسمان الذي أتقن اللغة، وأصبح يتحدث بها بطلاقة كادت تنسيه إلى الأبد لغته الأصلية..." ص 43، لتزداد ثقة غيلاس به ولم يتردد في تعيينه وزيرا عندما آلت إليه مقاليد الحكم بعد وفاة والده: " أصبح أوسمان وزيري..." ص 74، بل تعدى تموقعه كفرد من عائلة غيلاس: "أوسمان أصبح فردا من العائلة، ليس غريبا عنا..." ص 71، إلى علاقة مصاهرة من خلال زواجه بتوزين شقيقة الملك كما أكد ذلك غيلاس: "سأقيم حفل زواجي وزواج صديقي أوسمان بأختي توزين..." ص 137 .
وإذا كانت شخصية غيلاس، الذي تولى الملك بعد وفاة أبيه، هي الشخصية المركزية التي تأسست عليها أهم مجريات الرواية ووقائعها، فإنها تقاطعت، إلى حد التواشج، مع شخصية صديقه ووزيره وصهره أوسمان، كما ربطتها علاقات تواصل مع شخصيات من قبيل الملك شيشنق والد زوجته توسمان، وبشكل أهم وأخص الحكيم يفاو الذي توطدت علاقته بغيلاس الذي دأب على استشارته مستفيدا من سعة اطلاعه، وغزارة معرفته، ومستأنسا بزخم تجاربه وخبراته في تسيير شؤون البلاد، وتدبير أمورها بحكم طبيعة وحساسية علاقة مملكة الملك غيلاس بمحيطها المجاور وخصوصا الرومان الذين أدت درجات التوتر بينهما إلى الدخول في معارك وحروب . وفي سياق ما عرفته وعاشته روابط الود والصداقة بين غيلاس وأوسمان من تكامل وتوافق وتكافل شارف حدود التلاحم والانصهار اختزلته الرحلة التي خاضا غمارها صوب مملكة النحاس التي حدثته عنها جدته حسب قوله: "كانت جدتي دوما تحدثني عن مملكة النحاس التي كانت تقع في مكان من غرب البلاد، مملكة سكنها السحرة والعفاريت.." ص 43، حكاية حركت توقا لاجتراح أفق رحلة محفوفة بروح المغامرة والاكتشاف بمعية أوسمان منخرطا في وصف بعض تفاصيلها: " قطعنا طريقا طويلا، بدا لنا بلا نهاية، ثم أشرفنا على البحر الكبير، الذي لم يعرف أحد له نهاية، عكس بحر الشمال الذي كلما تطلع إليه شخص، بدت له اليابسة في ضفته الأخرى، تلك الأرض، التي يسكنها قوم متعطشون للحروب والبناء، الذين حدثني عنهم الحكيم يفاو باستفاضة... كنا نعرف أن ما ينتظرنا أقسى من أن تتحمل نفس البشر.. إنها مدينة النحاس التي يتحدث عنها الجميع دون أن يكون لدى أحد خبرها اليقين.." ص 56، حيث جندا نفسيهما لرحلة حافلة بالمخاطر والأهوال بغية اكتشاف أسرارها، والاطلاع على خباياها: " توقفنا أمام السور الضخم، فقررنا دون أن يحدث أحدنا الآخر أن نتسلقه لنرى ما يوجد خلفه..." ص 59، فيستشرفان آفاق حبلى بمشاهد غريبة يصعب تصديقها: " حانت مني نظرة إلى الخلف، فإذا بالطريق الذي عبرته رفقة صديقي قبل قليل قد اختفى..." ص 60، وإلى جانب اختفاء الطريق عنت لصديقه أوسمان كائنات ممسوخة تعذر على غيلاس رؤيتها: "هذه الكائنات الممسوخة ألا تراها؟ ـ أي كائنات يا صديقي؟" ص 61، ليستمر مسلسل اكتشاف مكونات المدينة الغريبة: "إذ سرعان ما انفتح أمامنا باب نحاسي لم ننتبه إلى وجوده من قبل، ولجناه دون تردد، فإذا بنا في قاعة فسيحة.. طلب مني أوسمان أن ألزم الصمت بناء على أوامر تلقاها من الكائن الغريب الذي أصبح يأتمر بأمره..." ص 62، وسرعان ما تحولت رؤية تلك الكائنات إلى غيلاس بينما احتجبت عن أوسمان: "ما إن سلمته جرابي، حتى تغير كل شيء أمامي، لقد انكشف الحجاب عن عيني وأخذت أرى كائنات شائهة ممسوخة ونزقة ... في رؤوسها قرون صغيرة.. ولها عين واحدة تتوسط جبينها..." ص 63، مشاهد تظهر وتختفي. تبرز وتحتجب في صور بطابع فانتاستيكي غرائبي. لتنتهي فصول رحلة محفوفة بالمخاطر والأهوال في مشهديات عجيبة أكسبت غيلاس وأوسمان تجربة قوامها تجشم الصعاب وركوب المخاطر لاكتشاف عوالم تعج رعبا ورهبة من خلال رحلتهما لمملكة النحاس.
وتتوزع رواية أحداث "تراتيل أمازيغية" بين ما هو تاريخي كحرب طروادة، وإحراق نيرون لروما: "حدثني الحكيم عن حرب طروادة التي قامت من أجل امرأة.. لقد حكى لي الحكيم يفاو قصة ملكهم نيرون الذي أحرق في إحدى نوبات جنونية روما." ص 83، وما له علاقة بسيرورة وقائع الرواية كوفاة والد غيلاس: "فاستقبلتني توزين مولولة وهي تقول: مات أبي يا غيلاس.. مات الملك.." ص 71، واختطاف الأميرة توسمان كريمة الملك شيشنق: "لقد تم اختطاف الأميرة توسمان." ص 80، التي ستصبح زوجة الملك غيلاس، ودخول الرومان إلى بلاد الأمازيغ: "كانت الأخبار قد تواترت سابقا عن دخول الرومان إلى بلاد الأمازيغ..." ص 82، اختراق مملكة الرومان من طرف مملكة غيلاس الأمازيغية، وإطلاق سراح الأسرى وفي مقدمتهم الأميرة توسمان: "تواترت الأخبار عن غضب كبير يحتقن في نفوس الرومان، لقد شعروا بالغبن، لم يتوقعوا أبدا أن تتحداهم، مملكة صغيرة وتخترق حصنهم المنيع، وتطلق سراح الأسرى، وتنتهي بإحراق قلعتهم..." ص 137، إلى غيرها من أحداث كزواج الملك غيلاس من الأميرة توسمان ابنة الملك شنيشق، وعقد قران أوسمان صديق غيلاس ووزيره من شقيقته توزين، والحدث البطولي الذي استشهد على إثره أوسمان الذي تعرض لطعنة غادرة كانت موجهة للملك غيلاس كعربون وفاء وإخلاص توطدت عراها وأواصرها بين الرجلين، كما أن حدث عقد ممالك أمازيغية لاتفاقيات مع مملكة الرومان دون علم مملكة غيلاس بذلك مما أصابه بنوع من الخيبة لأنه وضع ثقته فيهم باعتبارهم مناصرين لمملكته لما تجمعه معهم من وشائج تاريخية كفيلة بتوحيدهم بدل تفريقهم فإذا بهم يوقعون اتفاق سلم مع مملكة ناصبتهم العداء مما كان له تأثير على نفسية غيلان، فرغم ما التمسه لهم من أعذار خصوصا صهره ووالد زوجته توسمان الملك شنيشق الذي قد يكون هو الآخر وقع اتفاقية صلح مع الرومان: "لقد التمست له الأعذار، خاصة وأن مملكته تتاخم المنطقة التي يسيطر عليها الرومان، ومن حقه أن يحمي مملكته بالطريقة التي تبدو له مناسبة." ص 170، إلا أنه لم يستسغ هكذا سلوك أقرب إلى الغدر والخيانة من ممالك جمعته بهم علاقات تعاون وتضامن اكتشف، بمرارة، أنها كانت هشة وزائفة كما اختزل ذلك في قوله: "نعم صديقي ما أسوأ الخيانة.. لقد طعنوني باتفاقاتهم تلك." ص 171.
وقد سيطرت الأسطورة، في العديد من تجلياتها ومظاهرها، على مسار الرواية، وبصمت أجواءها من خلال أشكال شعائرية و طقوسية شكلت عرفا راسخا، وتقليدا متوارثا في اقترانه بالآلهة: "الملك ابن الآلهة، لا يمكن لأحد أن ينتصر عليه، ومن تمرد على ذلك، تحل عليه اللعنة إلى الأبد..." ص 4، أو بأرواح خفية: "في تلك الجبال الشامخة تنتشر كهوف بلا حصر، تعيش فيها الأرواح المقدسة، أرواح أجدادك منذ غابر الأزمان، التي ما أن تغادر أجسادها حتى تأوي إلى المغارات لتستقر هناك ساكنة مطمئنة..." ص 7، أرواح تنتقل إلى كائنات أخرى: "تسللت يوما روح تائهة إلى جسد خنزير بري، ومضت في طريقها تنتقل من مكان إلى آخر..." ص 7، ويتم التقرب منها قصد كسب رضاها، ونيل بركاتها وكراماتها بتقديم القرابين: "لابد من تقديم القرابين إلى الأرواح في كهوف الجبال." ص 13، وذبح الذبائح: "ذبحت الذبائح، ووزعت على الكهوف، فرضيت الأرواح بذلك، ومنحت بركتها للمملكة وتعهدت على أن تحميها من كل شر..." ص 13، وتم تناول هذه الأساطير برؤية مختلفة، في سياق مغايرمن طرف الحكيم يفاو: "أن لهم الكثير من آلهة الحروب التي لا ترضى بغير إشعال فتيل الحرب في كل وقت وآن، ذكر من هذه الآلهة، مارس، ومافورس، ومارمور..." ص 83، وما تحفل به هذه الحضارة (الرومانية) العريقة من رموز ثقافية وعقدية تجسيدا لما بلغته من تطور ورقي أغنى موروثها الحضاري والمعرفي والتاريخي فغدا أكثر تجذرا ورسوخا في سجل الحضارة الكونية: "لاحت لي الكثير من التماثيل التي تنتشر على امتداد المكان، ذكرني ذلك بما حكاه لي يفاو عن اهتمام هؤلاء القوم بهذا النوع من المنحوتات، يخلدون بهم قادتهم ومفكريهم، بل يمتد الأمر إلى آلهتهم كذلك التي تعز عن الحصر، تذكرت منها تلك الأثناء فينوس إلهة الحب، التي يزعمون إنها ولدت في البحر ونقلت إلى بلادهم في محارة.. وقيمتا إلهة المواقد العذراء، ومارس إله الحرب وفيستا إلهة النار." ص 96، مما يبرز غنى الرواية، وما تزخر به من زخم تاريخي وحضاري بنزعة أسطورية متعددة المظاهر والتجليات، متنوعة الخاصيات والآفاق أثرت مشهديات المتن الروائي على مستوى عناصر ومقومات الحكي الأساسية من شخوص ووقائع وموضوعات في تقاطع وتكامل بلغ أرقى مستويات الامتزاج والتماهي لتظل الأمازيغية أبرز تيمات الرواية داخل نسق أسطوري أكثر عمقا ورحابة وامتدادا.