📁 تدوينات جديدة

الشعر والحكاية الشعرية في عالم الأطفال المعاصر / د. فاضل الكعبي

نسبة كبيرة من الجمهور لا تدرك حقيقة شعر الأطفال ووظائفه ومهماته وجدّيته حق الإدراك، وتنظر إليه بقصور لا يخلو أحياناً من استخفاف واضح، خفي أو معلن لدى البعض، وهذا ما يسيء إلى هذا الشعر ويعرقل خطواته في الوصول إلى الطفل،


 د. فاضل الكعبي 

كاتب مفكر وأديب شاعر وناقد وباحث متخصص في أدب وثقافة الأطفال. 
مستشار "أصداء الفكر".

 مثلما للقصة أهميتها البالغة، ومكانتها الكبيرة والمتميّزة، وموقعها المتقدم والهام، الذي يتّخذ موقع الصدارة في بنية أدب الأطفال، كما أشرنا إلى ذلك وبيَّناه هنا، وأكَّدنا في الوقت ذاته على أن للقصة السبق الأول في ميول الأطفال القرائية، كذلك الحال بالنسبة للشعر، وأعني به هنا (شعر الأطفال)، فلهذا الشعر المكانة الهامة، والموقع البارز في بنية أدب الأطفال، بوصفه من بين الأجناس الأدبية والأشكال الفنية الأساسية لأدب الأطفال، ويشكّل الركن الثاني والأساسي الذي يقوم عليه بناء أدب الأطفال، كما أنَّ للشعر أهميته والحاجة إليه لدى جمهور الأطفال، ومثلما يأتي هذا الشعر بالمرتبة الثانية بعد القصة في بنية أدب الأطفال، فإنَّ الميل إليه، والطلب عليه من قبل الأطفال يأتي بالمرتبة الثانية أيضاً.

 ولكي تكون هناك موازنة عادلة بين الشعر والقصة، وتقريب مفهوم الشعر وفنيته وشكله من ذائقة المتلقي الطفل، فقد انطلق الكثير من الشعراء إلى صياغة قصائدهم صياغة قصصية بقالب شعري، وهذا ما كنّا نطالعه في العديد من النصوص القصصية والمنظومات الشعرية في أدبنا الطفلي المنظوم في العصر الحديث، إلا أن هذا الأمر بعد ذلك أخذ منحى آخر من التعبير والتشكيل ينطلق بالمعنى والشكل والأسلوب انطلاقة أخرى أكثر فاعلية مما كانت عليه الكتابة الأدبية في صياغة القصة صياغة شعرية مؤثّرة، يمكن أن تأتي بنتائج أكثر فاعلية وتأثيراً عند الطفل المتلقي.

 وعلى هذا الأساس سعى الفكر الخلاق المهموم بقضية النوع الأدبي المعني بمخاطبة الطفل، ومؤثراته الأكثر فاعلية، إلى إيجاد أفضل السبل للوصول إلى مخيلة الطفل وإلى ذائقته واهتماماته في التلقي، وحين وجدوا طغيان القصة على الشعر في طرائق التلقي ومستوياته، عند هذا الطفل، سعوا إلى خلق المعادل الموضوعي الذي يربط الشعر بالقصة، والقصة بالشعر في منظور واحد ومشترك يأتي بهذا الجنس من الشعر ليغذي ذاك الجنس من القصة، ليعطي نتاج الاثنين في القراءة وفي التأثير لدلالة التلقي وعمقها في وجدان الطفل وذهنيته، فكان من ذلك أن أوجد صناعة وصياغة (الحكاية الشعرية)، التي هي قصيدة تخرج بلباس القصة، وقصة تتزيّن بزي الشعر، لتخرج إلى القاريء الصغير بشكل ساحر ومثير، لتثيره وتفتنه بما أتت به وحملته من عوالم مذهلة ومدهشة في خطابها الأدبي والفني المطعَّم والمؤثّر.

 حقيقة، إن شكل (الحكاية الشعرية) في طبيعته الفنية، ودلالته السردية والشعرية، هو مفهوم أدبي يمازج بين فنية القصة وفنية الشعر في نسيج أدبي واضح المعالم، يطلّ على المتلقي ليشدّ اهتمامه ويجذبه إلى النوع المحبب من الأدب من دون أن يغلب هذا على ذاك من أنواع الأدب، وقد نال هذا التفرّع الحاصل في النسيج الفني من القصة ومن الشعر في مفهوم (الحكاية الشعرية) الكثير من الاهتمام لدى القاريء الصغير، كون هذا التفرّع الأدبي المذهل يتشكّل من نوعين أساسيين من الأدب، ليقف بالنتيجة، في منطقة وسط بين القصة وبين الشعر، في إنتاجه وفي تأثيره، وهو إنتاج مهم للغاية ومؤثّر بالغ التأثير في الطفل.

 ومع كل هذا، ومع مقبولية وجواز أن نمزج هذا بذاك من الأجناس الأدبية بشكل ومفهوم أدبي آخر، للخروج بأسلوب وتعبير أدبي مؤثّر وفاعل، أكثر استجابة لذائقة الطفل المتلقي، يبقى لكل نوع من أنواع الأدب اشتراطاته وفنيته ومتطلباته، إذ تبقى القصة قصة، لها أسسها ومعالمها، ويبقى الشعر شعراً له أسسه ومعالمه في هذا الاتجاه.

 وبالعودة إلى قضية الشعر ومناقشته، وإدراك عوالمه وتأثيراته، يمكن القول في هذا الاتجاه: إنَّ للشعر – لو بحثنا فيه وفي ماهيته وأثره وتأثيره، وتعمّقنا به أكثر وأكثر من زوايا مختلفة، ومن اتجاهات متعددة – لوجدناه، في حقيقته، وفي واقعه، وفي أهميته، أكثر قرباً من الطفل، وأكثر اتِّصالاً والتصاقاً به، من نواح كثيرة سنأتي إليها ونُبيّنها هنا في سياق هذا البحث.

 بداية، إذا ما أردنا التعرّف على (شعر الأطفال) بدقة وعمق، والوصول بهذا التعرّف إلى معرفة طبيعة هذا الشعر وحقيقته وحقيقة أثره ومؤثّره في متلقيه من الأطفال، لابدَّ لنا من الدخول عميقاً في عوالم هذا الشعر، والتعمّق في بحثه ودراسته بكل جدّية وموضوعية، وفي هذا الاتجاه، يمكن التأكيد هنا والقول بكل وضوح: إنَّ البحث في (شعر الأطفال) وماهيَّته، والحديث عنه بدقة وموضوعية، يحتاج إلى رؤية ثاقبة وبعيدة وملمّة بكل الأبعاد والاتجاهات التي تأتي منها بنية القصيدة المتَّوجِّهة بخطواتها وفنّيَّتها وعوالمها وأشكالها إلى الطفل المتلقي، لتنطلق - من بعد ذلك - منه وإليه، باتجاه العوالم الخاصة لشعر الأطفال والوقوف على ماهيته وفحوى وجهته ورسالته، ومن ثم معرفته ومعرفة أثره وفاعليته في عوالم الطفل، ولذلك يعد الحديث في شعر الأطفال حديث طويل ومتشعب للغاية، ولا يقف ولا ينتهي عند حدٍّ معيّن في هذا الحديث، فحدوده كثيرة ومتنوعة ومتعددة الوجهات والمحاور، وتظل حدوداً مفتوحة دائماً على أكثر من أفق وأكثر من اتجاه.

 من هذا المنطلق، وهذا الإدراك، لننطلق في بحثنا وحديثنا هنا، من بين ما يجب الحديث عنه والانطلاق منه في بادئ الأمر، والأخذ به على القدر المستحق من الأولوية والأهمية، من بين اتجاهات شعر الأطفال، هو ذلك الاتجاه المهم والأهم بدرجة كبيرة من الأهمية، والأكثر إشكالية وإثارة للجدل في فحواه وفي محتواه، وهو الاتجاه الفني والموضوعي والنقدي والنفسي، المتعلّق بأثر الشعر وتأثيره في الطفل المتلقي، مع ضرورة التعرّض في ذلك إلى حاجة هذا الطفل المتلقي إلى الشعر.

 في هذا الاتجاه يدفعنا القول في التأكيد على: أنَّ الشعر حاجة وجدانية وثقافية وعلمية أساسية ومهمة، تقف بالمقدمة من الحاجات الأساسية التي يحتاجها الطفل في مجمل أنشطته وفعالياته الحياتية، وفي مختلف تدرجاته العمرية في السن.

 ينطلق هذا الإدراك من منطلقات علمية مدروسة بعناية فائقة، فلا مبالغة إذا ما قلنا: أنَّ الطفل يحتاج إلى الشعر حاجة أساسية، وذلك لدوافع وجدانية تمليها غريزة الذات التي ترفع (الأنا) إلى المقدمة من الدوافع، لتعزيز هذه الغريزة وحاجتها إلى الشعور والإحساس بالمتعة والجمال والتخيّل والابتكار، والشعر خير من يستجيب لهذه الحاجة، هذا إلى جانب الحقيقة العلمية المؤكدة في العديد من الدراسات والأبحاث السيكولوجية، والسوسيولوجية، والسميولوجية، والتي مفادها: أنَّ الشعر والطفل يشتركان في صفات عديدة، أبرزها الصفة الموسيقية الداخلية، التي تنطلق من الواقع التنغيمي والإيقاعي في جرس اللغة الشعرية الموسيقي، وفي فعل الطفل الإيقاعي، فالشعر بطبيعته يقوم على أساس موسيقي، ويبنى على هذا الأساس بناء إيقاعياً ونغمياً دقيقاً، على وفق نظام لغوي وصوتي موزون، يُميِّزه عن النثر، كذلك الطفل بطبيعته، فهو كائن إيقاعي حساس، يميل إلى الإيقاع والتنغيم، وإلى الأصوات المموسقة في مجمل نشاطاته وأفعاله) (1).

الشعر والحكاية الشعرية في عالم الأطفال المعاصر / د. فاضل الكعبي
 ندرك من هذا أنَّ الطفل يحتاج إلى الشعر حاجة أساسية لا غنى عنها، لأنَّ الشعر يدخل في مجمل أنشطة الطفل وفعالياته الحياتية، مثلما يدخل في مجمل ما يحيطه من اتجاهات محيطه الاجتماعي، ولهذا يهمّنا جداً إدراك حقيقة هذه الحاجة بكامل فحواها وأهميتها وأهمية الاستجابة لها من قبل المعنيين بصياغة الشعر وإيجاده ونشره للطفل، وكذلك من قبل المعنيين باستقباله وتوجيهه للطفل والعمل على تلقيه بشكل شفاف وسلس ومتواصل من قبل الطفل المتلقي.

 بهذا المعنى، وانطلاقاً منه، وبالعودة إليه لتفسيره من زاوية أخرى، يمكن القول: إنَّ الشعر يحتاج، إلى جانب ما يحتاجه من أدوات ومهارات وقدرات ومتطلبات، يتمثّل أغلبها باللغة، والإيقاع، والخيال، والفنية العالية وغير ذلك، يحتاج أيضاً، وبدرجة أساسية ومهمة، إلى الخبرة الواسعة بجمهوره المتلقي، ويأتي ذلك بالدرجة الأولى، عبر إدراك ماهية هذا الجمهور، ومعرفة حدوده وتقديرها، وقياس إطاره الاجتماعي والثقافي والنفسي، وتمايزه العقلي والنفسي والثقافي، مع إدراك اختلافاته المتنوعة في ذلك، من ناحية التفاوت الطبيعي والحاصل بين فئاته العمرية.

 إضافة إلى ذلك، يحتاج شعر الأطفال ويتطلّب من مبدعه (الشاعر) موهبة خلاقة ومتجددة دائماً، لا تقف عند حدٍّ معيّنٍ من التجدّد، بل وتعد هذا التجدد نقطة انطلاق وبحث متواصلين، لا نقطة توقّف واكتفاء، كما نجد هذا الحال عند البعض من شعراء الأطفال عندنا، ممن رهن موهبته ورؤيته وشاعريته عند نمط معيّن، وأسلوب لا يحيد عنه ولا يتجاوزه إلى ما يجب من التجاوز والانتقال والتطور، تبعاً لما هو مطلوب منه ومن المبدع عامة، وتماشياً مع حتمية التطور والتغيير والتجدد في الأدوات وفي الأساليب وفي الأبنية الشعرية، التي وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم في بنية الشعر المعاصر للأطفال، والتي فرضتها ظروف التغيير والتطور العصريين، والتي انعكست بالنتيجة على أساليب التلقي وذائقة المتلقي، والتي باتت تفرض على شاعر الأطفال أن يرى ذلك بمثابة التحدي، بل ويدفعه الحال هذا إلى أبعد من ذلك بكثير، فيرى هذا التحدي، في دلالته وفي مغزاه، تحدّياً خطيراً له، ويتطلّب منه، بالنتيجة، أن يكون بمستوى هذا التحدي، وعلى قدر من المسؤولية تجاهه.

 ولكي يكون الشاعر، وخصوصاً شاعر الأطفال، بهذا المستوى من التحدي والمسؤولية يتطلب منه أن يكون حيوياً ومتجدداً في تجربته وفي كتابته لقصيدة الطفل الجديدة والمتجددة، التي تنطلق منه إلى المتلقي لتكون مستجيبة لهذا المتلقي، وعلى قدر من التواصل معه والاستجابة لذائقته ولمتطلّبات تلقيه للشعر، فالطفل بشكل عام والمتلقي للشعر بشكل خاص، كما يصفه الشاعر الأكاديمي الدكتور علي جعفر العلاق: كائن حسّي، يغريه النظر إلى العالم والغرق في تفاصيله، يفتنه ملمس الحجر البارد، وتهشّم الريح على السياج، يشدّه عن نفسه منظر حيوان وحيد، أو طائر يقاتل طائراً آخر دونما سبب، تغمره الدهشة لمطر يسقط لأول مرة، أو ضيف يستقبل بحفاوة ولم يكن قد رآه من قبل.. ولأنَّ الطفل كذلك، فعلى الشاعر أن يكون كهذا الطفل تماماً، كائناً يقبل على العالم بحواسه البيضاء المتَّقدة، يقوده جسد طري وخفيف كالفرح، ويعصف به فضول شديد وافتتان بتجربة كل ما يقع في مدى حواسه، يحرّك الطفل فرح بالحياة ورغبة في التورط فيها، فهو في منأى عن ضريبة الوعي الذي يقودنا إلى رصانة هي أقرب إلى الشيخوخة المبكرة، كما أنَّ لسخريته المتدفقة والقريبة إلى النفس، قدرة عجيبة على استدراجنا إلى حياة أكثر اكتظاظاً بالجمال والبراءة.) (2).

 ووفق هذا الوصف الدقيق والعميق، الكاشف والمعالج للطفل، والنظر إليه في منظور الشاعر، من زوايا متعددة، يتطلَّب، وقبل أيّ شيء آخر، السعي إلى جعله منظوراً سيكولوجياً وسوسيولوجياً إبداعياً عميقا، يكون حراكه وفاعليته ومنتجه في ذهن الشاعر، وفي ضميره، وفي مخيَّلته، قُبيلَ تهيئة موهبته وطاقاته، وتحشيد لغته وأفكاره وخياله باتجاه الكتابة للأطفال، ولذلك يتطلّب من هذا الشاعر، وأعني به هنا، الشاعر الذي ترافق صفته صفة الأطفال، أن يمتلك روح الطفل، ونفس الطفل، وحواس الطفل، وخيال الطفل، ولغة الطفل، وبراءة الطفل، وعبث الطفل، ونظرة الطفل، ولهو الطفل ودهشة الطفل، وخفَّة الطفل، وفضول الطفل، وسؤال الطفل، وأماني الطفل، وتطلعات الطفل، وانتقاد الطفل، ورفض الطفل لما لا يريد، وقبوله بما يريد، من أشياء وعوالم وقيود وحريات، وبالنتيجة يستحيل هذا الشاعر إلى كائن طفلي يعيش واقع الطفل بكل أبعاده وعمقه، وبكل تناقضاته ومتغيّراته، على أقل تقدير في حالة الكتابة ونتائجها، فهل يمكن لهذا الشاعر أن يكون هكذا، بهذا التماهي والتمثّل والتقمص والتحول، ليتمكن من النجاح في مهمته هذه، ومجاراة واقع الطفل والارتقاء بهذا الواقع بما يتطلب وبما يجب ؟

 هذا السؤال الإشكالوي والفلسفي، المهم والخطير، والمثير للجدل، دائماً وأبداً، في كل حديث ونقاش يتعرض لشعر الأطفال، والذي يفترض به أن لا يغيب عن ذهن الشاعر الحقيقي، فيجعله خارطة طريق إلى الطفل، هو سؤال العلاقة الإنسانية الحقيقية، النفسية والاجتماعية والقيمية، وهو بذات الوقت سؤال الجدوى من الكتابة للطفل، فهل يا ترى لهذا السؤال من إجابة حقَّة تكشف لنا مدى حقيقة ما تكون عليه علاقة الشاعر بالطفل في واقع الكتابة الشعرية الآن، الواقع المعاصر، وهل حقاً هناك علاقة حقيقية تذكر بين الشاعر والطفل، أم أنَّ هناك هوَّة كبيرة تفصل الشاعر عن الطفل، وتحول دون تحقيق رؤية الشاعر لعوالم قارئه، وتمنحه الفرصة المناسبة لاختبار كتابته واكتشاف نتائجها في واقع الطفل.

 هناك عدَّة آراء في هذا الاتجاه، يمكن لها جميعاً، أن تكشف لنا مرودها بالإجابة الدقيقة عن ذلك، لكن هذه الآراء إذا ما اجتمعت هنا، وأخذناها جميعاً، ربما يأخذ الأمر في ذلك منحى آخر من الجدل والتحليل، ويطول الحديث بنا ويتفرّع إلى ما لا نريده في هذا التفرّع، الذي قد يدفعنا إلى التشظّي، أو الابتعاد عن نقطة الارتكاز المهم في بحثنا هذا، وقد وجدنا من بين ذلك ما يهمّنا ويستجيب لنا بشكل أدق وأصوب، في ذلك الرأي الدقيق والمهم، الذي يذهب فيه القول إلى أنَّ هناك: (ثمة هوّة كبيرة، كما يبدو، تفصل بين واقعين لشعر الأطفال، يكون شاعر الأطفال، في الواقع الأول، رجلاً مكتهل الروح يكتب عن الطفل، ويتحدث عنه لا إليه، يكتب للطفل استناداً إلى معرفة عقلية بالحياة والعالم لا غبار عليها، لكنها معرفة تفتقر إلى تلك الخفقة الوجدانية، وذلك الدفء الحسي الصافي.. أما الواقع الثاني، فيتمثل في شاعر لم يفارق طفولته لحظة واحدة، لا يكتب عن الطفل، بل يتحدث إليه كطفل مثله، يشاركه عبثه البريء، وقلبه المفعم بالطرب، ويمتلك، مثله، عينين تأكلان كل شيء تريانه من فرط الدهشة، وشدة الإقبال على الحياة.) (3).

 نعم، هذا ما يحصل الآن في أساليب الكتابة الشعرية للأطفال في واقعنا المعاصر، كما ذهب إليه هذا الرأي الدقيق، في منظوره وفي تحليله العميقين، وهذا ما نذهب إليه منذ زمن، ويذهب إليه انطباعنا العلمي، في كشفه، وفي متابعته، وفي منظوره النقدي والتحليلي، الذي يتيح لنا الرؤية العميقة، والتفسير الدقيق للمساحة المنظورة من المشهد الشعري العام، لشعر الأطفال في العراق، بكل سعة ووضوح، لنصل بذلك إلى حقيقة لا مهرب منها ومن نتائجها، التي تؤكّد لنا بما لا يقبل الشك، بأنَّ واقع الكتابة الشعرية للأطفال الآن، حقيقة، هو واقع ملتبس، بل هو واقع إشكالي خطير، يقع بين واقعين متنافرين، يجاهد الأول ويسعى لفهم الطفل والاقتراب من مجسّاته الصحيحة والمؤثرة في التلقي، بينما نرى الثاني يحاول ويحاول في أديم الكتابة، ولا نرى في ذلك إلا محاولات متكررة لاستغفال الطفل والتحايل عليه في كتابات لا تعدو أن تكون منظومات تعبيرية تنتمي إلى الشعر شكلاً ولا تنتمي إليه روحاً.

 هذا الأمر هو الغالب الآن في كثير مما ينشر الآن من شعر الأطفال عندنا، إذ يقدم بعض الشعراء، وقبل أي شيء آخر إلى تقديم نصائحه الجاهزة للطفل وتوصياته للاهتمام بكذا وكذا، والتقيّد بنصائحه في هذا الاتجاه أو ذاك، فتأتي قصائد هؤلاء بمثابة (الخطبة) أو (ورقة تعليمات) صارمة، وإن أتت بهية الشعر من الناحية النظامية والمعمارية، مثلما نطالع من ذلك بعض ما يوصف بقصيدة أو شعر الأطفال، وفات كتّاب مثل هذا الشعر إن شعر الأطفال لا يأتي تصغيراً لشعر الكبار ونقلاً عنه وتبسيطاً له في الشكل والمحتوى، إنه أكثر حساسية في اللغة والخطاب والدلالة والخيال، وأخطر وجهة في توجّهاته، كونه يتوجّه لكائن عجيب وحسّاس وملول، لا يقبل على الشيء بسهولة، ولا يتقبّله بسرعة، كما يعتقد البعض، حين يتناسى ذلك، ويذهب بهذا الاتجاه، الذي يحاول من خلاله استغفال الطفل وخداعه، إذ لا يمكن للشاعر (أن يخدع الطفل بالحكمة المجردة، أو العمل الفاضل بالشجاعة أو الكرم إذا جاءه أي منهما على شكل فكرة ذهنية باردة، أو مشهد فقير، إن الكتابة للطفل بلغة مكتهلة وروح مليئة بالمشاعر السلبية، تخييب لمخيلة الطفل ومجافاة لإشراقة روحه.. إنَّ من أولى المهمات المترتبة على شاعر الأطفال هو أن يحترم مخيلة هذا المتلقي الصغير، فائق الحساسية، وأن يرتفع إلى ما فيها من خصب وشيطنة محببة.) (4).

الشعر والحكاية الشعرية في عالم الأطفال المعاصر / د. فاضل الكعبي
 من هنا تتأتى خطورة الكتابة للأطفال بشكل عام ؛ وخطورة الكتابة الشعرية لهؤلاء الأطفال بشكل خاص، كونها تنطلق إلى قارئ حسّاس ومزاجي ومتغيّر، لا يحابي ولا يجامل على حساب حاجته ورغبته وتطلعاته، ولا يقبل لحاجاته الملحَّة تلك الاستجابات العشوائية والانفعالية، التي يأتي الكثير منها من منطلق (تطييب الخواطر والرغبات للإرضاء السريع)، هذا المنطلق الذي يلجأ إليه السواد الأعظم من الأسر، وكثير من المعنيين بالتعامل مع الطفل، هذا الطفل الذي يفكّر تفكيراً عميقاً لا يتجاوز عالمه الخاص، نعم، تفكيره يختلف عن تفكيرنا تماماً، لكنه لا يسير بالضد من تفكيرنا، هذا الطفل لا يقبل أبداً، أن نتعامل معه بسذاجة، بأي حال من الأحوال، يريد منا أن نفهمه جيداً، ونتعامل معه جيداً، ونستجيب لحاجاته جيداً، وبالشكل الذي يرضيه ويقنعه، ويشعره بأهميته وقيمته بما يجب ويستحق من الأهمية والقيمة، وبهذا الاستحقاق فإنه لا يريد منا التعامل مع مشاكله من دون دراية، نعم، لا يريد لمشاكله الحلول الوسيطة، أو الترقيعية، أو تلك الحلول والاستجابات التي لا ترضيه ولا تقنعه.

 هذا هو الطفل، وهذا ما يجب أن يعرفه ويدركه شاعر الأطفال، وهو يخطو إلى هذا الطفل في الكتابة الشعرية، تلك الكتابة الحساسة، والخطيرة، والمثيرة لكثير من الجدل، والالتباس، والقصور، وحتى لسوء الفهم، والفهم المعاكس في كثير من الأحيان، هذا الفهم الذي نشعر بوجوده وتأثيره باتجاهين مُهمّين، اتجاه الجمهور واتجاه الشاعر.

 في الأول: نسبة كبيرة من الجمهور لا تدرك حقيقة شعر الأطفال ووظائفه ومهماته وجدّيته حق الإدراك، وتنظر إليه بقصور لا يخلو أحياناً من استخفاف واضح، خفي أو معلن لدى البعض، وهذا ما يسيء إلى هذا الشعر ويعرقل خطواته في الوصول إلى الطفل، ويحول دون تحقيقه لغاياته وأهدافه، ويدفع بجعل شعر الأطفال في المراتب الخلفية من الاهتمام والطلب، وحتى التلقي.

 أما في الثاني: فالشاعر يعي تماماً وقع الفهم المعاكس عليه، ومدى أثره السيئ في نفسه، وفي شعوره، والأكثر سوءاً من ذلك، كما يحس ويشعر، هو تداول الجمهور لهذا الفهم، والإصرار عليه، في الخفاء والعلن، وهذا ما يدفع بالشاعر إلى النكوص والتراجع في خطواته وفي كتاباته، في مرات عديدة، وكثيراً ما يحز هذا في نفس الشاعر، الشاعر الحقيقي للطفل، ويزيد من حدَّة الشعور بالألم في دواخل نفسه، فيدفعه ذلك إلى التساؤل بمرارة في بعض الأوقات: ما جدوى كتابة لا ينتبه إليها من كتبت له هذه القصائد، إلا بعد توصية وتنبيه من آخرين وسطاء بين الشاعر ومتلقي شعره، وهؤلاء، في الغالب، لا يعنيهم من يكون الشاعر بقدر ما يعنيهم كتابة الشاعر ومدى فائدتها وحاجة الطفل إليها.

·      هوامش مرجعية:

1 – فاضل الكعبي – الثقافة العلمية في أدب الأطفال، دراسات وأبحاث، (ط1) دار أمل الجديدة للطباعة والنشر، دمشق، سوريا 2018.

2 – على جعفر العلاق – كلمات عن قصيدة الطفل – جريدة العرب اللندنية، أكتوبر 2016 – راجع: فاضل الكعبي – أدب الأطفال بين الظاهر والمسكوت عنه، (ط 1) دار بوابة الكتاب للنشر، أم القيويين، الإمارات العربية المتحدة، 2016.

3 – المرجع نفسه، ص 34.

4 – فاضل الكعبي – شعر الأطفال، أغنية الأطفال: التقارب وإشكالية التلقي، (ط 1) دار مكتبة دجلة للنشر، بغداد، عمان 2024.
تعليقات