📁 تدوينات جديدة

أفكار شائكة: ضحايا بلا عيد، آباء في غربة I عادل عطية

أفكار شائكة: ضحايا بلا عيد، آباء في غربة I عادل عطية

1. ضحايا بلا عيد 

في كل مواسم الذبح، تتزاحمني أفكار جمة... يدفعني بعضها إلى الماضي، الذي يطوي وراءه ذكريات كثيرة، ويجبرني بعضها الآخر على الوقوف متلفتاً يمنة ويسرة، متأملاً في هذه الاحتفاليات، التي تضج بأهازيج تصطبغ بطابع الحزن العميم!

فنحن نحيا في هذه الحقيقة القاسية: إن هناك جماعات دموية، تقدم أضحيات بشرية، على مذابح مطامعها المتشارهة، باسم إله لا يوجد إلا في خيالهم؛ لأن الله الذي نعرفه، ونؤمن به، ضحى بالحيوان من أجل الإنسان، أما هم فيضحون بالإنسان من أجل الحيوان المتوحش الذي يعيش بداخلهم!

بعضهم يستغل المكانة المرموقة ليوم الجمعة باعتباره إسلامياً أفضل أيام الأسبوع، وعيداً لأيامه، فجعلوه -بفتوى دموية شرعية-، يوم: "أضحى" أسبوعي!

وبعضهم يرى أن كل يوم يمر عليهم وهم يجزون فيه الرقاب البشرية، ويلقون بها بشغف على طرقات الذئاب والكلاب: لهو يوم: "أضحى"، في حد ذاته!

ولأن الذنب بالذنب يُذكر؛ فقد حدث في أحد أيام طفولتي المبكرة، أن تعثرت، فصدمت رأسي بالكرسي -غفلاً مني-، فإذا بأمي توقع على الكرسي القصاص، بدلاً من معاقبتي أنا، لكي انتبه لنفسي، واحترس... أعترف لكم، إنني وجدت في فعلتها هذه، متنفساً للصعداء!

ولأن هذه الحكاية ليست حكايتي وحدي، ولأنها حكاية كل أم تأخذ بثأر أطفالها، فما تزال عملية نقل الذنب كائنة في أعماقنا، وما يزال قلبي وقلبكم يجد الراحة والسلام حينما تنقل آثامنا السوداء، ونضعها على آخر، حتى ولو كان هذا الآخر هو الشيطان... ألسنا نتهمه جميعنا أنه وراء كل شر، فنذبحه معنوياً لنخرج من الذنب بلا ذنب؟!

وكما حمّلنا الرجيم، جرائمنا المبتكرة، حمّلنا ذكوريتنا -بشراً، وطيراً، وحيواناً- أنانيتنا!

فالرجال يُدفعون إلى ساحة الوغى، ليكونوا أكثر ضحايا الحروب وقوداً، بينما النساء في بيوتهن: في الحفظ، والصون!

وعند إعدادنا الطعام، فإننا نهتم: بذبح الديكة، وترك الدجاجات، لأنها تبيض... وبذبح الثيران مع الإبقاء على البقرات؛ لأنها تلد، ولأنها تدر اللبن... وبذبح الخراف، بينما النعاج تُطلق؛ لتتمتع بنعمة الحياة، دون أن تذرف دمعة واحدة على شركائها في المأمأة!

قد يكون في ذلك شيء من المنطقية، لكن العجيب أن يتم فعل ذلك بمعرفة الذكور وبيدهم!

إنني في عيد "الإيمان والامتحان"، أحيي كل الأنعام التي ما تزال تُنحر في أواني التاريخ البشري؛ حتى أصبحت من الرموز المجيدة للبذل والعطاء، والتضحية والفداء... والتي ما تزال تُخجل الكثير من بني البشر، الذين لا يكفّون في مواسم الزلفى عن الهتاف عالياً من أعمق أعماق الحناجر، مرددين في صدى متتابع ومتواصل: "بالروح بالدم نفديك يا فلان"... فإذا جاء يوم الوفاء، وحتمية البذل والعطاء، كانوا أول من يبادر بالإدبار والهروب في عتمة التخفي!

صحيح أن الروح غالية جداً "فيا روح ما بعدك روح"... لكن الصحيح كذلك: ألا يُقدم مثل هؤلاء المرائين أرواحهم على طبق من كلام -ولو كان من فضة-؛ فالسكوت في هذه الحالة ليس من ذهب فحسب، بل ومن حياة وحياء...

2. آباء في غربة 

في لحظة غاضبة في وجه تداعيات الزمن ـ ربما لم تكن مشحونة كفاية بالتفاؤل ـ، قال الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول: "الشيخوخة حطام سفينة"!

وعندما تهترئ السفينة الإنسانية: أباً أو أماً... الآتية من انهيارات الشيخوخة، الباحثة عن شواطئ آمنة وهادئة ودافئة من الأبناء، لترتاح قليلاً من أتعابها في أحضانهم، تهب العواصف الهوجاء المحملة بالأنانية والإنكار، وتضرب أمواج التجاهل والإهمال السفينة، حتى تمتلئ بالإحساس بالغربة في بيت الأحباء: نفسياً، وعاطفياً، ووجدانياً. وتكاد تغرق في بحر الآلام العميق!

يصرخ أحدهم بغصة أفسنتينية:

-أبنائي، فلذات كبدي، تركوني محتقراً ومرذولاً مع المرض والألم، وانتظار الوفاة في مأوى للعجزة! 

يدافع أحد الأبناء عن ذاته قائلاً: 

-إنني أعمل أغلب ساعات النهار، وزوجتي لها اهتماماتها خارج البيت وداخله، وليس لدينا الوقت لرعايته، ولم نجد أفضل من "بيت رعاية المسنين"، مستقراً له، حيث: الضيافة، والعبادة، والصداقة، والوقاية، والاستفادة من الطاقات! 

ولكن الأب، يشتاق لمن يفتقده من أبنائه، ولو في إطلالة واحدة في الشهر، وفاءاً لكفاح السنين؛ لكي يكونوا في مكانتهم!

ويقول ابن أخر:

إن أبي لم يعد متزناً ولا منضبطاً في أقواله، وفي أفعاله، إنه يثير المتاعب الجمة: لي، ولزوجتي، ولأولادي، حتى جيراني ضجروا منه. إن وجوده في وسطنا، أمسى معاناة!

يا له من إبداع لا إنساني، تحويل القول الرديء إلى فعل أردأ وقاسٍ!

ويقول أحدهم في أسى: أنا أملك حق الوفاء الأدبي لأبي، ولكن زوجتي ترفض مشاركتي حمل متاعبه؛ فماذا أفعل؟ هل يظل أبي معي، وتذهب زوجتي؟ هل يخرب بيتي؟

إن هذه الزوجة لا تعلم من أي روح هي، فالذي لا وفاء لوالديه، لا يحمل الوفاء لشريك حياته، والذي يزرعه الإنسان، إياه يحصد أيضاً!

ويقول أحد الأبناء، معتقداً أنه عثر على المبرر الكافي، ليلفظ والده:

-أبي مريض بداء فقدان الذاكرة "الزهايمر"، وأشعر بأسف عندما أتأمل الانحدار السريع في قواه العقلية، فلم يعد يعرفنا، بل ولم يعد يعرف حتى نفسه. أعتقد أنه لم يعد مهماً، أن نكون بقربه، أو لا نكون.

وقبل أن أقول له: أن الشيوخ بركة لمجرد وجودهم في وسطنا، وحتى وإن لم يكونوا يدركون ما حولهم، فالله يدرك، ويقدر أن يعطينا نعمة الإدراك، لنفهم أنه يعين ويعوض المعروف، ولكل أمين حتى الموت: بالخير، والبركة. أذهلتني حفيدته الصغيرة، بقولها: إنني أمسك بيد جدي، وأصلي من أجله كل يوم، كما كان يفعل من أجلي!

الأبناء، ثمرة عمل إلهي، أشترك فيه الوالدين، لذا فالبنوة الصادقة لا تنسى جميل الله الذي أوجدها، وكرامة الأبوين اللذين اشتركا مع الله في وجودهم. ونحن لا نستطيع أن نرد أو نكافئ جميل الله إطلاقاً مهما أخلصنا، إلا بسعينا كأبناء لكي نفرح قلبه. فمتى يتنازل كل طرف عن ذاته ويتلاقى الكل في وحدة تشهد للإنسانية الواحدة؟، متمثلين بما كان يفعله آباؤنا مع آبائهم: لقد اعتبروا والديهم الصورة الأصلية التي تفتحت عيونهم عليها، ليروا الله فيهما، وإكرامهم وصية إلهية، تصان في حياتهم، وبعد رحيلهم، بتحملهم في شيخوختهم، والصلاة من أجلهم. لقد تمسكوا بالوصية، وحسبوا قوتهم في ضعف آبائهم تكمل؛ فكانوا من محبتهم يسيرون معهم في طريق الألم، ليحتملوا كبديل عن والديهم: كل تأثيرات الشيخوخة، راضين غير متألمين، شاكرين غير متذمرين، ويودعونهم إلى شاطئ الأبدية في سلام، عارفين: بأن ما يفعلونه الآن بآبائهم، سيحصدون أمثاله، وأكثر، من أبنائهم.

فمتى نتمثل بهم، ومتى نتحرر من عبادة المشاعر الذاتية، إلى شركة حمل الآلام المبرحة مع آبائنا، وتكون حياتنا اليومية محبة محتملة، ومضحية؟

إن مجرد وجودنا مع آبائنا في محنتهم تأييد منا لإيماننا بالله، ولمحبته، ورعايته...

ذ. عادل عطية / مصر
تعليقات