شكلت الطبيعة جزءا من المعمار المعجمي للقصيدة العربية عبر التاريخ منذ العصر الجاهلي سواء أكانت طبيعة صائتة أو صامتة حيث ارتبط الشاعر بالبيئة الصحراوية بما يؤثثها من كثيب ورمال ونجوم وسراب ورياح ووحيش وغير ذلك...
شكلت الطبيعة جزءا من المعمار المعجمي للقصيدة العربية عبر التاريخ منذ العصر الجاهلي سواء أكانت طبيعة صائتة أو صامتة حيث ارتبط الشاعر بالبيئة الصحراوية بما يؤثثها من كثيب ورمال ونجوم وسراب ورياح ووحيش وغير ذلك وأعلن عنها في نظمه ، وكذلك ظلت الطبيعة روحا حاضرة في النسق الشعري العربي وظفت بأشكال مختلفة عما كان في السابق ، إذ كان لتوسع الدولة الإسلامية وانفتاحها على ثقافات جديدة وانتقالها من البداوة إلى التحضر أثر كبير في النظر إلى الطبيعة التي اتخذها شعراء موضوعات استقلت بها القصيدة بعدما كانت في غالب عمومها استعمالات معجمية تستجيب لخصوصية الدلالة التي يفرضها المقام فلم تكن الطبيعة استعمالا شعريا في ذاته ولذاته مثلما سنشهد عند شعراء بني العباس ،خاصة ابن الرومي الذي برع في الوصف الشعري فأبدع في وصف قوس قزح وأنواع الزهور التي جاءت بها المدنية مما زينت به القصور والبساتين كالنيلوفر والياسمين وشقائق النعمان ووصفه للسحاب والرعد وحتى الفواكه له فيها وصف بديع كقصيدته في الموز التي تلاعب فيها بالحروف وغير ذلك كثير عنده وفي الأندلس بلغ ابن خفاجة في وصف الطبيعة مبلغا عظيما ، فاتخذت عناصرها موضوعات للشعر تفنن الشعراء في نعتها وتصويرها بأشكال غاية في الجمال يصنعها تخييل شعري يتفاوت فيه أهل الصنعة أيما تفاوت.
وكان للمد الرومانتيكي الغربي أثره الكبير على الشعرية العربية خلال منتصف القرن التاسع عشر حيث ظهرت علاماته القوية في تغير الرؤية للشعر من العالم وتبلور موقف جديد طبع المخيال الشعري والموقف من الخطاب نفسه ، حيث ربط الرومانسيون الشعر بالأحاسيس والذاتية المغرقة في أناها ، مبتعدين به عن القضايا القومية والاجتماعية التي أسهب فيها شعراء المحافظة ، فتلونت رؤيتهم الفلسفية بالنزوع المثالي الذي ستمثله الطبيعة في كينونتها وجوهرها الصافي الذي ينأى عن الجانب المادي المغرق للإنسان في الشرور والآثام ، لذلك وجدت الرومانتيكية نفسها تعيش الحلم الطوباوي وكا،ها تجتر جمهورية أفلاطون وتمني النفس ببناء مدينته الفاضلة فكلن الهروب نحو الغاب والذي شكل الصورة المصغرة للطبيعة باعتبارها الملاذ الوحيد الذي يجد فيه الإنسان منيته وضالته المفقودة التي تنأى به عن العالم المادي المليء بالشرور والقيم المتكسرة لأن عالم الغاب يظل المثال الأوحد للصفاء والنقاء والخير يقول جبران:
ليس في غابات راع
ولا فيها القطيع
ليس في الغابات حزن
لا ولا فيها السموم...
لذلك فقارئ القصيدة الرومانسية سيتنفس عبق الطبيعة في كل بيت من أبياتها إذ إن الشاعر العربي بغض النظر عن انتمائه المدرسي مهجريا كان أو منتميا إلى مدرسة أبولو أو إلى مدرسة الديوان سيشعر أنه في حضرة قصائد تدخله في عالم صاف نقي مشحون بالبكاء والحزن والتعبير عما يجيش في البواطن من أحاسيس صادقة تتفجر ينابيع عذبة من بين أنامل هؤلاء الشعراء ، لأن الطبيعة عندهم تظل المسلاة والملاذ للنفس البشرية كي تتطهر من أدرانها وتنزع إلى هذا الصفاء الذي لا يمكنها أن تلفيه في عالم مزيف متسم بالتهشم لا شيء فيه يبعث على الاطمئنان وراحة الوجدان يقول الملاح التائه علي محمود طه:
إذا داعب الماء ظل الشــجر
وغازلت السحب ضوء القمر
وناحت مطوقة بالهــــــوى
تناجي الهذيل وتــــشكو القدر
هنالك صفصافة في الدجى
كأن الظلام بها ما شــــــــعر
أخذت مكاني في ظلـــــها
شريد الفؤاد كئيب النــــــظر
إنها الكثافة المعجمية المستمدة من الطبيعة تشحن كل الأبيات على امتداد القصيدة التي اقتطعنا منها هذه الأبيات لندل بها على مدى قوة هذا المعجم الذي آل إلى استعمال مغاير لما دأبت عليه الشعرية العربية القديمة من حيث التلاؤم مع السياق الذي فرضته الحركة والتنقل في بيئة الصحراء مع الشاعر الجاهلي وحتى شعراء صدر الإسلام أو فرضته المدنية وتحولات المجتمع العربي في مستوياتها المختلفة مما جعل الشاعر العربي يستشعر ذلك السكون الوجداني تجاه عناصر مدهشة من الطبيعة كانت غريبة عن بيئته فاتخذها موضوعات للوصف الشعري أو تلك البيئات التي امتازت بعناية ملوكها وأمرائها بالجانب الجمالي والتزييني فكان ذلك مثارا لاهتمام الشاعر العربي الذي سيتخذها موضوعا شعريا، غير أن الأمر عند الرومانسيين اتخذ منحى مختلفا فرضته فلسفات جديدة كان مصدرها المثاقفة التي غيرت تصورات هؤلاء الشعراء للشعر وجعلتهم يربطون الطبيعة بالذات في نوع من الحلول والذوبان والانعتاق من العالم المادي، منح أشعارهم دفقة جديدة استطاعت أن تمتد بعيدا في العالم العربي تلقفتها قرائح شعراء كبار في المشرق والمغرب العربي وإن كان المد قادما بشكل مواز للموجات الآتية من لبنان وسوريا ومصر من أرض المهجر الأمريكي مع الثالوث العملاق جبران وميخائيل وإيليا أبي ماضي، مما يدل على قوة هذا التيار الجارف وعمق فلسفته الوجودية.
جواد عامر | المغرب