📁 آخر الأخبار

دور مدرسة سيد درويش التعبيرية في تطور المسرح الغنائي المصري / محمد جمال الدين

دور مدرسة سيد درويش التعبيرية في تطور المسرح الغنائي المصري / محمد جمال الدين

 منذ بدايات الإنسان الأولى لعبت الدراما والموسيقى دوراً مؤثراً في الحياة، إلا أن تبلور هذا الدور ظهر بشكل أوضح مع بداية ظهور الحضارات الإنسانية، بل وأصبح دوراً أكثر فعالية، فمنذ عهد الإغريق وحتى وقتنا الحاضر، أصبحت العلاقة بين الدراما والموسيقى علاقة مترابطة ومتواصلة، فلم تعد تقتصر على الاحتفالات والمناسبات والطقوس، بل اتخذت لها مكاناً مرموقاً على خشبات المسارح، بل تجاوزت ذلك بالإسهام في بناء المجتمعات وتطويرها.

وقد شهدت الدراما في الحضارة الإغريقية ازدهاراً كبيراً وعظيماً، وارتبطت بالموسيقى ارتباطاً وثيقاً، بل أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الدراما، إذ ارتكزت عليها بشكل أساسي في الطقوس والاحتفالات الدينية والدنيوية، اعتماداً على الارتباط بين الموسيقى والشعر، وانطلاقاً من حقيقة العلاقة التبادلية والتفاعلية بينهما، إذ أن الميزان الموسيقي عامل مشترك، يستمده الشعر من أصول الموسيقى، فيشكل مصدراً للموسيقى في اختيار الإيقاع المناسب، للكلمة أو الجملة أو الدلالات.

ومع ظهور الديانة المسيحية وسيطرة الكنيسة، تعاظم شأن ودور الموسيقى، واعتمدت الكنيسة عليها في طقوسها الدينية، أما في بداية عصر النهضة ومع ضعف سطوة الكنيسة، حرر الفن من الأفكار المتزمتة، وظهر نوع جديد من الدراما الموسيقية وهى (المونوفونية)، وهى موسيقى بسيطة أحادية الصوت، استخدمت في تقديم العديد من المسرحيات الغنائية الريفية في أوربا، وبمرور الوقت تطور هذا النوع من الدراما الموسيقية، وتداخل مع العديد من الفنون الأخرى في وحدة واحدة، وأطلق عليه فن (الأوبرا)، وهو فناً مسرحياً موسيقياً، يعرف بأنها فن الترابط بين التمثيل الدرامي والموسيقى والأداء الشعرى، وذلك الترابط خلق نوعاً من التكوين الجمالي يتحسسه المتلقي لحظة المشاهدة.

ومع حلول القرن التاسع عشر تطور فن (الأوبرا)، فبعد أن كانت الدراما قبل ذلك تلعب دوراً ثانوياً بالنسبة للموسيقى، أصبحت الموسيقى في خدمة الدراما وتابعة للحالة الدرامية، كما ظهر أيضا فن (الأوبريت) في القرن التاسع عشر وهو عرض مسرحي غنائي تصاحبه بعض الحركات التي يغلب عليها أن تكون إيقاعية منظمة، وهو في الغالب غنائي ملحن تصاحبه الموسيقى من أوله لأخره، ولكنه قد يحتوى في القليل النادر على كلام يلقى بلا موسيقى أو غناء، كأحد الأشكال التي تطورت إليها (الأوبرا)، ثم أصبحت نوع مستقل له طابع عاطفي، لا يخضع للقواعد الصارمة التي نجدها في (الأوبرا)، وتستند الموسيقى الدرامية فيه إلى ألحان سهلة وسريعة الحفظ، بل أصبح يحتوي على حوار كلامي يطرح موقفاً درامياً أكثر مما كان عليه في بداية نشأته، وعليه ازدهر فن (الأوبريت) منذ نهاية القرن التاسع عشر ومع بدايات القرن العشرين، وأصبح من أنواع المسرح الغنائي الناجح، الذى يجد قبولاً من الجمهور على اختلاف طبقاته.

وقد شهدت (مصر) في أواخر القرن التاسع عشر انفتاحا غير مسبوق على الحضارة الغربية، وكثرت الجاليات الأوربية في البلاد وتعددت أنشطتها، بل وعروضها المسرحية، ولعل من أشهرها عرض (أوبرا عايدة) تأليف الموسيقار الإيطالي (فيردى)، في افتتاح (قناة السويس) عام 1869م، إلا أن تلك المسارح الفخمة التي شيدت لتقديم العروض الأجنبية المستضافة، كانت بهدف الترفيه عن الجاليات الأجنبية بالبلاد، والطبقات الارستقراطية فقط، لذا كان تأثير تلك العروض محدوداً، على الفنانين والجمهور المصري، خاصة الطبقات المتوسطة والكادحة التي اتجهت وساندت وشجعت مسرحيات (يعقوب صنوع)، التي نجحت نجاحاً جماهيرياً كبيراً، في ترجمة صادقة لحاجة البلاد إلى مسرح مصري وطني يتناول القضايا الاجتماعية والوطنية، ومشاكل الطبقات المتوسطة والمهمشة.

ولقد كان من نتائج ذلك موافقة (الخديوي)على دعم واستقبال فرقة (سليم النقاش) لتقديم عروضها بمصر، ثم جاء (أبو خليل القباني) إلى (مصر)، وقدم عروضه مع (إسكندر فرح)، الذي ما لبث أن استقل بفرقته، واستعان فيها بالشيخ (سلامة حجازي) الذى أسس فيما بعد فرقة مسرحية غنائية خاصة به، ثم توالى ظهور فرق المسرح الغنائي ومنها فرق، (سليم وأمين عطا الله)، و(أولاد عكاشة)، و(منيرة المهدية)، كما ازدهر أيضا المسرح الغنائي في (مصر) على يد جيل من رواد هذا الفن أمثال، (سلامة حجازي)، (كامل الخلعي)، (داود حسني)، (سيد درويش)، (زكريا أحمد)، وقد سمح الطابع الغنائي للمسرح منذ نشأته، باستيعاب الأشكال والأنواع المسرحية الموسيقية والغنائية، ومن ضمنها فن (الأوبريت)، الذى شهد رواجاً كبيراً لدى الجمهور في (مصر).

ولقد مر المسرح الغنائي في (مصر) بفترتين هما:

-الفترة الأولى: فترة ما قبل (سيد درويش)، وهى الفترة التى سادت فيها مدرسة التنغيم والتطريب في المسرح الغنائي المصري.

-الفترة الثانية: فترة (سيد درويش) وما بعده، وهى الفترة التى سادت فيها المدرسة التعبيرية، وتطور فيها المسرح الغنائي.

الفترة الأولى: فترة المسرح الغنائي قبل (سيد درويش) – مدرسة التنغيم والتطريب:

مع بداية القرن العشرين جذبت أضواء الفنون، مجموعة من الفنانين المشايخ أفرزتهم مدراس التجويد، قدموا مجموعة من الفنون سميت في ذلك الوقت فن المشايخ، منهم الشيخ (سلامة حجازي) مؤسس المسرح الغنائي في (مصر)، والذى حقق من خلال أعماله المسرحية الغنائية، علاقة تبادلية تفاعلية، بين ما هو عربى وما هو غربى، وقدم المسرحيات العالمية مترجمة ومعربة، بألحان شرقية خالصة، وهو الإتجاه الذى سار على دربه أيضا (داود حسني)، و(كامل الخلعي).

وقد تميز فن المشايخ داخل المسرح الغنائي، بالعديد من السمات والخصائص، ظهرت بشكل واضح في أعمال وألحان الشيخ (سلامة حجازي)، الشيخ (درويش الحريري)، الشيخ (علي محمود)، الشيخ (علي المغربي)، الشيخ (أبو العلا محمد)، الشيخ (سيد الصفتي)، الشيخ (سيد مرسي) منها الموهبة الفطرية، الصوت القوى، الدراية بعلوم الموسيقى، الأداء المتميز، الغناء والتلحين للقصائد والموشحات، تكوين فرق الإنشاد / البطانة، إلا أن مجموعة المشايخ وعلى رأسهم الشيخ (سلامة حجازي)، بالإضافة إلى (داود حسني)، و(كامل الخلعي)، لم يخرجوا بالدراما الموسيقية عن الأسلوب القديم، وجاءت أعمالهم في إطار التنغيم والطرب، دون الاهتمام بالتعبير الموسيقى عن دراما العروض المسرحية.

الفترة الثانية: فترة (سيد درويش) وما بعده، وهى الفترة التي سادت فيها المدرسة التعبيرية، وتطور فيها المسرح الغنائي المصري:

طرق (سيد درويش) منهجاً جديداً في التلحين المسرحي اعتمد فيه أساليب متطورة، كما اهتم بتأصيل النغمات المحلية، ووضع نصب عينيه مسألة هامة وهى أن تعبر الموسيقى عن الدراما المسرحية، بحيث تنطق بأفضل شعور يمكن أن يتولد عند المتلقي، وقد تحرر من أجل ذلك من كل قيود الماضي التي كبلت الدراما الموسيقية في قوالب جامدة، وأوجد بذلك لأول مرة المدرسة التعبيرية الموسيقية في الدراما المسرحية الغنائية، إذ أن الألحان والموسيقى المسرحية عند (سيد درويش)، وفي حضن العناصر المسرحية الأخرى الداعمة، إنما تشكل عنصراً هاماً في تنشيط الوعي الدلالي والإدراك الحسي، فهي لا تحيل الأشياء والعناصر إلى ذاتها، بل تفرقها عن ذاتها وتنزع عنها مرجعياتها المعنوية والدلالية، ناقلة كل ما يشاهد ويسمع إلى حيز الفعل الذهني المشارك والخلاق لا إلى الحيز الذهني المتلقي بسلبية وخمول.

سيد درويش:

هو اسم كبير في عالم المسرح الغنائي المصري، إذ لا يمكن اعتباره فقط واحداً من كبار ملحني المسرح الغنائي في مصر، بل أنه تجاوز كل هذا بوصفه أحد أصحاب الفضل في تطور المسرح الغنائي المصري، فقد تميزت ألحانه المسرحية بالتراكيب الشرقية، والبعد عن التأثر بالموسيقى الغربية، إذ قلب (سيد درويش) الأوضاع كلها في مضمون وشكل المسرح الغنائي، ولم تعد الدراما الموسيقية بعد (سيد درويش) تشبه ما كانت عليه قبله بأي حال، وهذا الانقلاب هو الذي أحدث نهضة وتطور في المسرح الغنائي المصري، واستمر هذا التطور حتى بعد رحيله.

وقد اعتمد (سيد درويش) في مسرحه الغنائي على أسس جديدة منها، الدراما والرسالة التي يرسلها العرض المسرحي إلى المتلقي، والتعبير الموسيقي عن أحداث الدراما، مع الارتباط بالتراث الشعبي كأساس للهوية المسرحية الموسيقية، وأيضا صياغة الجمل اللحنية في أبسط صورة، وصياغة الألحان المسرحية في تراكيب حديثة متطورة وإيقاعات شابة مليئة بالحيوية، تبعاً لأحداث العرض المسرحي.

لذلك اتبع (سيد درويش) في سبيل ذلك أسلوبين ناجحين، أولهما وحدة العمل، أي استخدام الجو العام للحن من ناحية إيقاعه وتركيب نغماته، في التعبير عن أحداث العرض المسرحي، وثانيهما التصوير المباشر أي استخدام جمل موسيقية معينة، في التعبير عن الجمل اللغوية أو المونولوجات الطويلة داخل الأعمال المسرحية، مع ملاحظة أن (سيد درويش) قد استخدم الأسلوبين منفصلين وممتزجين.

ومن أشهر ألحان (سيد درويش) داخل الأعمال المسرحية، أنا هويت، زورونى كل سنة مرة، بلادي بلادي، قم يا مصري، أنا المصري، الحلوة ده، طلعت يا محلا نورها، ألحان الطوائف، بالإضافة إلى ألحان أوبريتات مسرحية منها، العشرة الطيبة، وشهرزاد، والباروكة، وغيرها، وهى تحتوي على ما يقرب من مائتي لحن.

ثمة عوامل قد ساهمت في تكوين شخصية (سيد درويش) الفنية، نذكر منها:

-حفظه للقرأن الكريم، وللكثير من القوالب الغنائية المعقدة منذ الصغر، خاصة الموشحات والقصائد، إضافة إلى تأثره بفن المشايخ وخصائصه، واكتسابه العديد من خصائص وصفات فن المشايخ ومنها، موهبته الفطرية، صوته القوي، وأدائه المتميز.

-سفره إلى بلاد الشام، رفقة (أمين وسليم عطا الله) صاحبا فرقة مسرحية هناك، ومقابلة الموسيقى النابغة (عثمان الموصلي)، مما مكنه من جمع تراثاً موسيقياً كبيراً وثرياً، وعدداً كبيراً من الكتب الموسيقية.

-اتخاذه من المقاهي في (الإسكندرية) بعد عودته من الخارج، وسيطاً يقدم من خلالها أعماله وتجاربه الغنائية، حتى ذاع صيته ووصل إلى الشيخ (سلامه حجازي)، الذى ذهب لسماعه وأعجب به، فاصطحبه معه إلى (القاهرة) ليشارك في أعمال فرقته، ثم طلب منه تلحين رواية (فيروز شاه) لفرقة (جورج أبيض)، وهى أول رواية لحنها (سيد درويش)، وقد أعطت للجمهور انطباعاً بأن هناك تياراً فنياً جديداً في طريقه إلى الظهور على ساحة المسرح الغنائي، مما جعل الفرق الأخرى تتبارى من أجل ضم (سيد درويش) إليها.

(سيد درويش) والمعاصرة الموسيقية:

في العصور الوسطى وبالتحديد في القرن التاسع، اهتدت (فرنسا) إلى طريقة في التأليف الموسيقي الخاص بالعروض المسرحية الغنائية سمي (الأورجانوم)، أي ضغط الألحان في حزمة واحدة وفي زمن واحد، وهو ما سمي فيما بعد بتزامن الألحان بتركيبها فوق بعضها، وهو ما أدى إلى ظهور (السيمفونية).

بينما توصلت (إيطاليا) في عصر النهضة، وبالتحديد في القرن الخامس عشر، إلي طريقة في التأليف الموسيقي الخاص بالعروض المسرحية الغنائية أكثر بساطة، وهو(الحوار) أو (الديالوج)، إذ يقاطع اللحن لحنا آخر، ويعود الأول لمقاطعة الثاني، ثم لحن ثالث مقاطعاً الثاني، وتظل الألحان هكذا تتقاطع مع بعضها.

أخذت كلا من (فرنسا) و(إيطاليا)، تطوير تلك المدارس والأساليب في التأليف الموسيقي لعروض المسرح الغنائي، حتى أصبحنا في نهايات القرن الثامن عشر، وبدايات القرن التاسع عشر أمام مدرستين في التأليف الموسيقي لعروض المسرح الغنائي هما:

-المدرسة الفرنسية: مدرسة تكثيف الألحان.

-المدرسة الإيطالية: مدرسة الحوار اللحني.

استبعد (سيد درويش)، المدرسة الفرنسية في تكثيف الألحان المسرحية، واختار لنفسه المدرسة الإيطالية، مدرسة الحوار اللحني، إذ يقاطع المطربين بعضهم بعضاً، إدراكاً منه أن الحوار اللحني يتلاءم مع ذائقة جمهور المسرح المصري، وأقرب إلى أرواحهم ونفوسهم، خاصة في عروض المسرح الغنائي المصري، وهذا الحوار اللحني هو ما استخدمه (سيد درويش) في جميع أعماله المسرحية الغنائية والتي بلغت (ثلاثون) عملاً مسرحياً غنائياً (من عام 1917 م وحتى عام 1923 م).

يرى الباحث أن بالمزاوجة ما بين الكلمة واللحن، استطاع (سيد درويش) أن يقدم الحوار اللحني المسرحي في مسرحه الغنائي، ومن خلاله عبر عن هموم وآمال وطموحات وطنه، وساعد على إيقاظ الروح الوطنية بين المصريين، وذلك بعمق وتأثير نغمات ألحانه داخل أعماله المسرحية على نفوس وأذان المتلقين لفنه، وذلك من خلال الغناء الحواري التعبيري المسرحي بين أكثر من مطرب، والغناء الجماعي أيضا في ألحان مسرحية أخرى.

الألحان والموسيقى المسرحية في مسرح (سيد درويش) الغنائي:

لعب (سيد درويش) دوراً كبيراً ومهماً في تطور وتعاظم المسرح الغنائي المصري، وبالتالي ظهرت الأغاني متعددة القوالب بشكل أكثر تركيزاً وفاعلية في الدراما المسرحية، إذ إن موسيقى وألحان المسرح الغنائي عند (سيد درويش) لها قواعدها التي تختلف عن قواعد الأغنية العربية التقليدية، لعل من أهمها ظهور التعبيرية في موسيقى وألحان الدراما المسرحية لأول مرة، إذ أن ألحان المسرح الغنائي عند (سيد درويش) لا توضح لملء الفراغات أو للحشو الزائد، وليست أيضا عنصراً مكملاً أو ثانوياً، وإنما تتعدى وظيفتها كل تلك الحدود، أنها تعمل على خلق شخصيات، وأبعاد معنوية ونفسية، وحالات درامية مسرحية متكاملة العناصر، كما أنها تضفى أبعاداً جديدة مستقلّة ومتفاعلة مع البناء الدرامي العام للعرض المسرحي، تغنيه وتشارك في مساره، بل تصنعه في كثير من الأحيان.

فالموسيقى والألحان في مسرح (سيد درويش) الغنائي، تستخدم كلغة بعيدة عن المباشرة، وعن تسمية الأشياء بأسمائها، فأصبحت لا تحدد، بل تحرر، ولا توجه، بل تطلق، ولا تشرح أو تفسر لكنها توحي وتحير، إنها لغة صامتة، لا تقول أي شيء إلا كي تقول كل شيء، كما أن لها دور في تحفيز الذهن والعاطفة، والتحرر من التقييدات المعنوية والتحديدات الدلالية، وتسبح نحو الخيال والبحث والتأويل.

سمات المدرسة التعبيرية عند (سيد درويش) لبيان التحولات والتطورات التي أحدثها في المسرح الغنائي المصري:

أولاً – الإهتمام بالموضوع كمدخل للحوار والتعبير الموسيقى:

يرى الباحث أن (سيد درويش)، قد تتطرق إلى موضوعات في مسرحه الغنائي، لم يتطرق لها غيره في ذلك الوقت، إذ خاطب طوائف عديدة معبراً عن طموحات وآمال كل طبقات الشعب المصري، كما عمل على إيقاظ الروح الوطنية لدى جميع أفراد الشعب، مع الخروج من أسر التطريب والتنغيم، إلى الحوار الغنائي والتعبير الموسيقى داخل الدراما المسرحية، مثلما هو الحال في اللحن المسرحي (الصنايعية)، وهو من نوع القالب الغنائي (الطقطوقة)، مقامها الموسيقى (الحجاز)، تأليف وأغاني (بديع خيري)، ألحان (سيد درويش)، أداء (فتيحة أحمد) والمجموعة، من ألحان مسرحية (ولو)، إنتاج فرقة (نجيب الريحاني)، وقدمت (عام 1918م)، وتقول كلمات مطلعه:

الحلوة ده قامت تعجن في البدرية

والديك بيدن كوكو كوكو في الفجرية

ياللا بنا على باب الله يا صنايعية

يجعل صباحك صباح الخير يا آسطى عطية

وهو لحن مسرحي يعبر ويصور حياة البسطاء من الشعب المصري، في هذا الوقت ويصف أحوالهم وظروف حياتهم، إذ وصف أحوال المرأة المصرية، وكذلك طائفة الصنايعية في ذلك الوقت، في تعبير لحني موسيقى مسرحي أبدع فيه (سيد درويش)، في رسم الصورة الدرامية في مخيلة المتلقي، إذ يبدأ بصورة درامية موسيقية شعبية بسيطة هي مدخل إلى قضية كبرى، العمال والصنايعية والصناعة ورأس المال، إنه يتعرض لقضية سياسية في المقام الأول، ولم تكن هذه مهمة المسرح في عصره، إذ كان المسرح للمتعة فقط، ثم هو يجعل من هذا اللحن المسرحي البسيط، قطعة فنية خالدة تحفظها الأجيال.

إن (سيد درويش) في هذا الموقف الدرامي يتغنى بامرأة بسيطة كادحة، تعد خبز الصباح لأسرتها في وسط شعبي، بين عامة الناس الذين يربون الدواجن في منازلهم المتواضعة، إنه يتطرق للحديث عن بؤس فئة من الناس تشكو همومها إلى رب العالمين.

وعند تحليل الموقف الدرامي نجد أن بعد استغراق (سيد درويش)، في عرض حكاية كل يوم من مشقة وعمل دون تقدير، وما يصحب ذلك من موقف نفسى سلبى، تأتى الكلمات باستدراك كاستدراك (شهرزاد) التي أدركها الصباح فسكتت عن الكلام المباح، فالكلمات فجأة تقول:

الشمس طلعت.. والملك لله

ما تشيل قدومك.. والعدة ويالله

اجرى لرزقك.. خليها على الله

وهنا نجد (سيد درويش) مخلصاً لمدرسته التعبيرية، ويقف مع تغليب الموقف الدرامي على أي شيء آخر، حتى لو أدى ذلك إلى الانتهاء بغير ما بدأ به، مغايراً بذلك العرف القديم ومحطماً لقوالبه الجامدة، كما يؤكد (سيد درويش) من خلال النموذج السابق أن لحنه هذا لا يشرح الواقع والوجود ولا يفسره ولا يقدسه، لكنه يعيد خلقه باستمرار يؤلفه فيما يؤلفه ويهدمه فيما يبنيه، ومن هنا أيضا يمكن فهم مدى قدرة (سيد درويش) من خلال ألحانه المسرحية، في التأثير على نمو وتطور شبكة مفاهيم وتداعيات الخواطر المتشكلة في ذهن المتلقي، والتي تشكل بدورها جزءاً هاماً من وعيه وحسه وإدراكه ووسائل انفعاله وتفاعله مع الحياة.

نموذج أخر وهو نشيد (قم يا مصري)، وهو من نوع القالب الغنائي (النشيد)، ويسمى نشيد (الكشافة)، على درجة (فا ماجير)، تأليف وأغاني (بديع خيرى)، ألحان وأداء (سيد درويش)، من ألحان مسرحية (قولوا له)، إنتاج فرقة (نجيب الريحاني)، قدمت (عام 1919م) وتقول كلمات مطلعه:

قوم يا مصري مصر أمك بتناديك.. خد بناصري نصري دين واجب عليك

وهو لحن مسرحي استطاع (سيد درويش) من خلال التعبير الموسيقي، إيقاظ الحماس والروح الوطنية لدى المصريين، وذلك بإدراكه أن الموسيقى كمؤثر صوتي عنصر هام في الاستخدامات المسرحية، فهو يلون الشكل المسرحي ومصوغاته، وهو يغني ويشكل الأجواء ويسهم في خلق البيئة المكانية والزمانية، ويضخم المشاعر ويثير الحماس والحالات الدرامية.

وهناك أيضا نشيد (أنا المصري)، وهو من نوع القالب الغنائي (النشيد)، على درجة (فا ماجير)، تأليف (عزيز عيد)، أغاني (بيرم التونسي)، إنتاج فرقة (سيد درويش) و(عمر وصفي)، وتم تقديمه (عام 1921م)، في مسرحية (شهرزاد)، أداء وألحان (سيد درويش)، وتقول كلمات مطلعه:

أنا المصري.. كريم العنصرين

بنيت المجد.. بين الأهرامين

وأيضا (النشيد الوطني) وهو من نوع القالب الغنائي (النشيد)، على درجة (فا ماجير)، وقد استوحى (سيد درويش) كلماته من الزعيم (مصطفى كامل)، ألحان (سيد درويش)، وهذا النشيد قد تم تقديمه داخل العديد من أعمال سيد درويش المسرحية وتقول كلمات مطلعه:

بلادي بلادي بلادي.. لك حبي وفؤادي…

يرى الباحث من خلال نماذج الأناشيد السابقة، أن (سيد درويش) وأحد من أهم ملحني الأناشيد الوطنية المسرح الغنائي المصري، فلم تكن تلك الأناشيد تقدم في مصر قبله، إذ ورغم بساطة اللحن في تلك الأناشيد، إلا أن (سيد درويش) جمع بداخلها عدة خصائص تميزت بها ألحان أناشيد سيد درويش المسرحية منها، ضبط البنــاء اللحني، اختصار اللزم الموسيقية، واعتماده على التبـاين بديلاً عن التلوين الصوتي، وجماعية الأداء الغنائي، وظهور المدرسة التعبيرية في اللحن، وتأكيد الموسيقى الشعرية واللفظية، مع استخدام إيقاع (المارش الرباعي) لإثارة الهمم والروح الوطنية، لتميز هذا الإيقاع بإثارة الحماس، عدا نشيد (قم يا مصري)، إذ اعتمد في تركيبه وبنائه على إيقاع (الفالس الثلاثي)، وهي إيقاعات لم تكن تستخدم من قبل في القوالب الموسيقية والغنائية داخل الأعمال المسرحية، لذا وصف بعض المحللين الموسيقيين (سيد درويش) بالملحن صاحب الفكر، والفنان المتجدد المبتكر.

ومن خلال تحليل الباحث للمسار اللحني الدرامي يرى أن ألحان وأناشيد (سيد درويش) الوطنية، في مسرحه الغنائي جاءت بعيداً عن الغنائية الشديدة والتعقيدات اللحنية، لذا استطاعت الجماهير أن ترددها بسهولة ويسر، وهو ما يتضح جلياً في (النشيد الوطني).

مسرح سيد درويش بالإسكندرية

ثانياً – أساليب (سيد درويش) والمعاصرة الموسيقية في مسرحه الغنائي من حيث: الغنـــاء، والتعبيرية في الموسيقى، والحوار المسرحي والحوار الغنائي، والبناء الدرامي، والتأليف الموسـيقى والبنـــاء الفني، واستخدام الأوركسترا في مسرحه الغنائي:

يرى الباحث أن (سيد درويش) سار في درباً جديد من دروب التلحين المسرحي، اهتم فيه بتأصيل النغمات المحلية، كى تتوالد من موسيقى ألحانه المسرحية أفضل شعور لدى المتلقي، عن الأحداث الدرامية، وكان هذا من عوامل جماهيرية ألحانه المسرحية وتأثيرها البالغ على النفوس، وشهرته التي وصلت إلى أبعد مدى، وجعلت الفرق المسرحية تتنافس وتتبارى فيما بينها، كى تفوز به ملحناً لأعمالها، إذ أدرك (سيد درويش) أن الأصوات والنبرات وحركة الكلمة على خشبة المسرح، تشكل عنصراً مسرحياً وموسيقيّاً معنوياً وجمالياً في عروض المسرح الغنائي، فاختيار الأصوات (أصوات الممثلين وأصوات المطربين)، وكذلك جميع المؤثرات التي تندرج في هذا السياق تشكل النبرة المسرحية، بالإضافة إلى وعى (سيد درويش) التام بأهمية البعد المجازي للعناصر الما بعد صوتية ودورها في تشكيل النبرة المسرحية وتداعياتها الدرامية بالإجمال.

من حيث الغنـــاء:

كان المطرب داخل العروض المسرحية قبل قدوم (سيد درويش)، يبدأ الغناء بعد سلسلة من المقدمات الموسيقية، حيث يقوم كل عازف بأداء بعض التقاسيم المنفردة على آلته، ثم يبدأ المطرب أداء موال لشد انتباه الجمهور، ثم يدخل في غناء القالب الغنائي المسرحي.

بقدوم (سيد درويش) وبموهبته وبراعة قدراته اللحنية، انتقل الغناء المسرحي إلى أسلوب الدخول مباشرة في الموضوع، فتسلل بذلك إلى قلب المتلقي وذهنه، وهو ما أحدث انقلابا في التأليف الموسيقى المسرحي، بل وأفرز جمهوراً جديداً، هو كل طوائف الشعب المصري، بعيداً عن فن الصالونات والقصور.

من حيث التعبيرية في الموسيقى:

التعبيرية الموسيقية في المسرح الغنائي هي إحساس يتولد لدى المتلقي، نتيجة سماعه لأنغام معينة، وتكمن صعوبة التعبيرية الموسيقية في المسرح الغنائي في أنها تتطلب وجود معنى مسبقاً، قبل وجود الموسيقى التي يراد لها التعبير بمادتها عن ذلك المعنى، بمعنى أخر التعبير عن الأحداث الدرامية المسرحية باللحن، وقد أجاد وبرع (سيد درويش) في ذلك، عن طريق التزاوج بين أسلوبين هما، استخدام الجو العام للحن المسرحي، من حيث الإيقاعات والتركيب النغمي في التعبير عن المعنى العام للموقف الدرامي، ومن ناحية أخرى استخدام جمل موسيقية معينة في التعبير عن الأحداث الدرامية، ومثالاً على ذلك اللحن المسرحي (الشيالين)، ومقامه الموسيقى (الحجاز)، تأليف وأغاني (أمين صدقي)، ألحان (سيد درويش)، أداء (حامد مرسى) والمجموعة، وقدم في رواية (البربري في الجيش)، لفرقة (على الكسار) عام 1923م وتقول كلمات مطلعه:

شــد الحـــزام على وسطك.. غيره ما يفيدك

لابد عن يوم برضه.. ويعدلها سيدك

وإن كان شيل الحمول.. على ظهرك يكيدك

أهون عليك يا حر.. من مــــدة إيدك

يرى الباحث أن البيت الأول يصور درامياً واقع الحال لدى فئة من الناس، مع الأمل في تغير الوضع، أما في البيت الثانى نجد إيقاظ لروح العزة والكرامة والبعد عن الذلة والإنكسار، وقد عبر عن ذلك الحدث المسرحي (سيد درويش) موسيقياً، من خلال اختياره لمقام (الحجاز) المناسب للتعبير عن هذه الحالة، والإيقاع السريع لتصوير الحركة الدائبة، كما استخدم أيضا في هذا اللحن المسرحي، عدة أساليب لتصوير المعانى والتعبير بالموسيقى عن دراما الحدث منها، إستخدامه أسلوب الغنائية الحماسية للتشجيع، وأسلوب التأكيد اللفظى، وأسلوب تماثل الجمل اللفظية واللحنية معاً، وأسلوب تأكيد التأكيد لإحداث ثأثير عميق ومتدفق لدى المتلقي، بالإضافة إلى تأكيد الفكرة الدرامية وتوضيحها.

كما اختفت أيضا اللازمة الموسيقية بين مقاطع اللحن المسرحي (الشيالين)، وهو ما يحسب (لسيد درويش)، إذ أدرك بموهبته وبراعته أن المخاطب هنا فئة معينة من الناس، ولابد وأن يكثف لها اللحن بشكل سريع حماسى، لتأكيد ما يريد أن يعبر عنه ويصوره، وما يريد أن ينصح به هذه الفئة من المجتمع، كما حرص أيضا (سيد درويش) في هذا اللحن على الأداء التعبيرى، ليس على المستوى الموسيقى فقط، بل على مستوى الغناء الذى اتجه إلى التشخيص التمثيلى، وظهر هذا واضحاً في تلوينه الصوتى أثناء أداء هذا اللحن، حيث عمد (سيد درويش) دائما أثناء التعبير بموسيقاه وألحانه، تقديم الأداء المسرحي والتلوين الصوتى.

فالغناء هنا في هذا النموذج لا يتم بنبرة تقريرية، إلا إذا إستدعى الأمر ذلك، لكنه يستخدم نبرة ما، ولوناً صوتياً ما، وآداءاً كلامياً ما، يساهم ذلك كله في بناء الشخصية الدرامية، ويضفي عليها طابعاً صوتياً، هو في صلب الحس والتصميم الموسيقي لأبعاد الشخصية الدرامية.

ونموذج آخر على ذلك، اللحن المسرحي (الوصوليين) ومقامه الموسيقى (العجم)، على درجة (رى ماجير)، من ألحان رواية (العشرة الطيبة)، تأليف (محمد تيمور)، أغانى (بديع خيرى)، ألحان (سيد درويش)، أداء (محمود رضا) والمجموعة، وقدمته فرقة (نجيب الريحانى) عام 1920م وتقول كلمات مطلعه:

عشان ما نعلا ونعلا ونعلا.. لازم نطاطى نطاطى نطاطى

من يستمع إلى اللحن المسرحي (عشان ما نعلا) يدرك مباشرة، أن الجمل الموسيقية هى في مستوى حكمة التعبير الدرامي، ولا يجب أن تكون دون ذلك، ويتضح بجلاء أن (سيد درويش) كان يؤمن بما يلحنه أولاً، أى أنه لم يكن يصنع الألحان للتطريب المزاجى، وإنما يهدف إلى نفس غاية المؤلف المسرحي، ويريد أن تصل الفكرة إلى الناس في أوضح صورة ممكنة، إذ لم يكتفى (سيد درويش) في هذا اللحن، بالتعبير الموسيقى عبر التلوين الصوتى والغناء الحوارى فقط، بل ألبس كل فرد من أفراد مجموعة الغناء، ما يناسب دوره الدرامي على المسرح، ولم يكتفى بهذا فقط، بل جعل حركات المجموعة تعبر عن ما يقوله الحوار الغنائي، مع التلوين الصوتى في الأداء، وأيضا التنقلات الإيقاعية.

من حيث التأليف الموسيقى والبنــــاء الفني:

-الانتقال النغمي:

قبل (سيد درويش) كان اللحن المسرحي ينتقل بالتدريج من نغمة إلى أخرى تالية، ثم إلى ثالثة مجاورة، وهكذا مع سيطرة مقام معين على اللحن، يلى ذلك تمهيد طويل ثم الغناء، ومع قدوم (سيد درويش) نجد أساليب جديدة ومغايرة تماماً لما كان سائد في المسرح الغنائي، ومثالاً على ذلك لحن (الوصوليين / عشان ما نعلا)، إذ نجد النغمات المستعملة ليست متتالية، بل ذات قفزات نغمية أيضا، وهو يخالف ما كان سائد قبل ذلك على خشبات المسارح، ويخلق حالة من التعبير الموسيقى، وشد انتباه المتلقي، بعيداً عن الرتابة التى قد تصيبه جراء تتابع النغمات، كما كان سائد من قبل في المسرح الغنائي.

-الانتقال المقامي:

قبل (سيد درويش) لم يكن هناك ما يعرف بالإنتقال المقامى، فاللحن المسرحي يبدأ وينتهى عند نفس المقام الذى بدء منه، لكن (سيد درويش) استخدم الإنتقالات المقامية، أى الإنتقال من مقام موسيقى إلى مقام آخر، مع عدم العودة إلى المقام الرئيسى، ومثالاً على ذلك لحن طقطوقة (الصنايعية / الحلوة ده)، حيث جاء اللحن من مقام (الحجاز)، ثم انتهى بجملتين قصيرتين، في ختام اللحن من مقام (البياتى)، ولم يعد إلى المقام الذى بدء منه اللحن، وكان هذا الإنتقال المقامى في هذا اللحن، بسبب إدراك (سيد درويش) ووعيه الشديد بالحالة الدرامية، فالطقطوقة تبدأ بوصف حال الصنايعية بالتعبير الموسيقى، وتنتهى بالدعوة إلى العمل، والإعتماد على الله، والعمل بهمة مع ظهور صباح كل يوم جديد.

-الانتقال الإيقاعى:

كان لابد مع الانتقالات المقامية في ألحان (سيد درويش) المسرحية، أن يحدث انتقالات إيقاعية أيضا، كما في لحن طقطوقة (الصنايعية) / (الحلوة دى)، وذلك بغرض التلوين الصوتي، وتقديم أداء تعبيري مسرحي، ومثلما لم يعد (سيد درويش) في اللحن إلى المقام النغمي الذى بدء به اللحن المسرحي، أيضا لم يعود إلى الإيقاع الذى بدء منه اللحن، وذلك بسبب وعى (سيد درويش) بالموقف الدرامي، الذى تدور فكرته حول حكاية كل يوم من مشقة وعمل، هنا يقدم (سيد درويش) نموذج للتعبيرية عن الموقف الدرامي، بالتغير والإنتقال الإيقاعي ليتلاءم مع الحالة الدرامية.

-ثنائية الحوار المسرحي والحوار الغنائي:

الحوار عند (سيد درويش) حوار الدراما وحوار الموسيقى، ويعتبر (سيد درويش) أول من تناول تلحين (الديالوج) المسرحي، أو بمعنى أخر الحوار الشعرى المسرحي، والذى لم يكن قد ظهر من الأساس قبله، حيث كان أول ديالوج مسرحي يلحن هو (على قد الليل ما يطول) في أوبريت (العشرة الطيبة)، وهو (ديالوج) لحنه (سيد درويش) من مقام موسيقى يسمى (زنجران)، وهو مقام لم يكن يعرف قبل (سيد درويش)، إذ أن (سيد درويش) هو من ابتكر هذا المقام الموسيقى الجديد واستعمله في ألحانه المسرحية.

-البناء الدرامي:

كان (سيد درويش) يهتم قبل الشروع في التلحين بالبناء الدرامي، وهو ما أدى إلى ظهور مدرسته التعبيرية في ألحانه المسرحية، بل أن البناء الدرامي هو أحد أهم أسباب إتباع (سيد درويش) تكنيك الانتقالات المقامية النغمية، وأيضا الانتقالات الإيقاعية في جمل ألحانه المسرحية، رغبة منه في إبراز البناء الدرامي وتصوير الإحداث على خشبة المسرح.

-استخدام الأوركسترا:

أدخل (سيد درويش) في مسرحه الغنائي (الأوركسترا الغربي) محل (التخت الشرقي)، وتعمد إدخال تراكيب جديدة من التآلفات النغمية إلى موسيقاه المسرحية، لتتسق مع الآلات الغربية، إذ وجد في الأوركسترا أداة جيدة للتعبير بالموسيقى في مسرحه الغنائي.

تأسيساً على ما سبق، يرى الباحث أن (سيد درويش) لم يسير على درب الشيخ (سلامه حجازي)، و(داود حسني)، و(كامل الخلعي)، وبمقدمه تغير كل شي، حيث حلت التعبيرية في المسرح الغنائي محل التنغيم والطرب، وأصبحت الموسيقى في عهده مدخل للتعبير عن الكلمات والنصوص الدرامية، والجو العام لموضوع العمل المسرحي، إذ أصبحت الموسيقى أداة للتعبير، أو بمعنى أكثر وضوحاً غناء مسرحي، وعليه أصبح الغناء والموسيقى في المسرح الغنائي عند (سيد درويش)، ليست مجرد تنغيم أو توقيع، وإنما وسيلة للتعبير الموسيقى، تنطق وتصور معنى النص الدرامي وجو العرض.

بعد أن تتطرق الباحث إلى مدرسة (سيد درويش) التعبيرية في مسرحه الغنائي، يعتقد أنه من الضروري تحليل المسار اللحني المسرحي لأحد أهم أعماله اللحنية المسرحية، وهو اللحن الدرامي المسرحي (الوصوليين)، أحد ألحان أوبريت (العشرة الطيبة)، إذ تحقق في هذا اللحن أساليب المعاصرة الموسيقية والتعبيرية في المسرح الغنائي عند (سيد درويش) من حيث، الغنـــاء، والتعبيرية في الموسيقى، والحوار المسرحي والحوار الغنائي، والبناء الدرامي، وأيضاً التأليف الموسـيقى والبناء الفني، علاوة على استخدام الأوركسترا، وأوبريت (الشعرة الطيبة) من تأليف (محمد تيمور)، وكلمات (بديع خيرى)، على درجة (رى ماجير)، ألحان (سيد درويش)، أداء (محمود رضا) والمجموعة، وقدمته فرقة (نجيب الريحاني) عام 1920م وتقول كلمات مطلعه:

عشان ما نعلا ونعلا ونعلا.. لازم نطاطى نطاطى نطاطى

بسلامته الوالي أبو زعيزع.. مهجص باشا دقن تعيتع

وغرامه تمللي قال ايه.. نترصص دايما حواليه

نروح واقفين زنهار.. زي القط والفار

تلقاه دايما منفوخ نفشرله. طاخ طيخ طوخ

الرك على حبة بولوتيكه.. وذمة كاوتشوك خربانة

ما دام الأمير ذمته أنتيكه.. لازم الرعية تكون وحلانة

أول شرط نطاطي البصلة.. لسيدنا الوالي ونستعبط له

عشان ما نعلا ونعلا ونعلا … لازم نطاطي نطاطي نطاطي

يعتبر هذا اللحن (لسيد درويش) فاعل مجسداً لأحداث العرض، إذ قام بأداء تشخيص خاص يناسب الشخصيات المسرحية (الوالى، الفلاح، الصنايعي، الجرسون، السوداني، الشامي)، وغيرها من الشخصيات، وصلت إلى أذن المتلقي، كما لو كانت هى ذاتها الشخصيات الواقعية بلهجاتها وأدق تفاصيلها، بل برع (سيد درويش) من خلال التعبير باللحن للوصول إلى تصوير الشخصيات الدرامية وصفاتها وخصائصها في مخيلة المتلقي، الذى قد يكون لم يصادف مثل هذه الشخصيات في حياته العادية، إضافة إلى الفكاهة داخل أحداث الأوبريت، واستخدام الأسماء المضحكة والسب والضرب والنكات، وغير ذلك من وسائل مسرح الفارس.

كما نجح (سيد درويش) من خلال هذا اللحن، أن يتدخل في صناعة الأصوات التمثيلية لشخوص المسرحية، بل وصقلها بما يخدم الدور المسرحي، واستدعائها في التطويرات الدرامية المرافقة والمحيطة لها عبر العرض المسرحي، إذ أدرك (سيد درويش) أن اللغة المسرحية وبعيداً عن حدود اللغة الكلامية وخارج نطاق المنطوق، لغات تتخاصر مكونة الفعل المسرحي، الذي يتجاوز الشرح والتعليم والتلقين والوعظ إلى إثارة الخيال وشحن الذهن، وعليه فإن اللحن الدرامي المسرحي (الوصوليين) يمتلك أقوى عناصر تفرد (سيد درويش)، وهو التعبيرية في التلحين، فالموسيقى في هذا اللحن تلتبس الموقف الدرامي، ولا تكتفى بالتعبير عنه فقط، ففكرة النص الدرامي الغنائي تدور حول جماعة من بلاط الحاكم أى الحاشية الفاسدة، وهى تتحدث عن مبادئ الوصولية، وتتخذ من هذه المبادئ سبيلاً للوصول إلى الجاه والمال والسلطة، وهنا قدم (سيد درويش) في هذا اللحن الإسقاط الرمزي، لإظهار المضمون الذى تريد الدراما الغنائية أن ترمز له.

استخدم (سيد درويش) في هذا اللحن المسرحي مقام (العجم) على درجة (رى ماجير)، مع التنقل الدائم على المقامات الموسيقية، وأيضا التنقل ما بين الإيقاعات، واستخدام القفزات النغمية والتلوين الأدائي، علاوة على الأداء المسرحي، وهو أهم ما يميز أسلوب (سيد درويش) في التعبير الموسيقى داخل مسرحه الغنائي، عن طريق إحداث شحنات هائلة من الانفعالات تعبر عن الأحداث الدرامية وتتوغل إلى عقل المتلقي، لذا يرى الباحث أن هذا اللحن تصويري بالإضافة إلى تعبيريته.

رغم التنقل الدائم على المقامات الموسيقية، وأيضا التنقل ما بين الإيقاعات، واستخدام القفزات النغمية والتلوين الأدائي في اللحن، إلا أن (سيد درويش) حافظ على بساطة اللحن، من خلال استخدام النغمات الأساسية للسلم الموسيقى، حتى يسهل على المتلقي استيعاب اللحن المتدرج صعوداً أو هبوطاً.

وفق (سيد درويش) أيضا من خلال لحن (الوصوليين)، في تحقيق جماعية الأداء الغنائي على لسان المجموعة من ناحية، ومن ناحية أخرى وفق أيضا في توصيل رسالته الموسيقية الدرامية إلى المتلقي، من خلال جماعية الأداء الغنائي أيضا كوسيلة استخدمها في توصيل الرسالة، كذلك وفق أيضا (سيد درويش) في تركيب الإيقاع الموسيقى مع الإيقاع الشعرى الحوارى الدرامي، من خلال تأكيد الموسيقى الشعرية المسرحية والموسيقى اللفظية معاً.

وفق أيضا (سيد درويش) في لحن (الوصوليين)، بين الإيقاع الموسيقى والإيقاع الشعرى الحوارى، وهى أحد أساليب (سيد درويش) اللحنية التي تميز بها نظراً لتمكنه التام وبراعته في فن الموشحات، الذى يتطلب استخدام أوزان وتفاعيل البحور الشعرية المتوافقة مع بعضها البعض، ويرى الباحث أن (سيد درويش) قد عمد إبقاء الصيغة اللحنية في إطار الصيغة الشعرية الحوارية، ليؤكد على أهمية البعد الدرامي الواقعي والبعد التعبيري الموسيقى أيضا، علماً بأن هذا الأسلوب اختص به (سيد درويش) في ألحان أعماله المسرحية، ولم يكن موجود من قبله.

-استخدام الأداء المسرحي:

هناك مقاطع تم أداؤها من مطرب واحد، وأخرى تم أداؤها بالإلقاء المسرحي دون تنغيم، وهو ما يؤكد براعة (سيد درويش) في التعبير الموسيقى عن المضمون الدرامي.

استخدام (سيد درويش) في لحن (الوصوليين) المسرحي، العديد من التيمات الشعبية من جمل لحنية وإيقاعات، وذلك لوجود بعض التعبيرات اللفظية الدارجة في النص، وإدراكاً منه بأن لحنه مقدم في المقام الأول إلى الجمهور المسرحي، إضافة إلى وعيه الكامل بأنه لحن يعالج موضوعاً غير تقليدياً، وهو الحال في معظم ألحان (سيد درويش) المسرحية، إذ يغلب على الكثير منها الموضوعات والمضامين الدرامية غير التقليدية.

يرى الباحث أن (سيد درويش) في لحنه (الوصوليين)، قد استخدم التوزيعات الموسيقية (الهارمونية)، وأيضا أسلوب الغناء (البوليفوني)، فمن زاوية التوزيعات الموسيقية (الهارمونية)، قدم (سيد درويش) العديد من التكوينات اللحنية من خلال تصاعد نغمات مقام (العجم)، مع قفزات لحنية مستقرة على نفس درجات سلم المقام، لتحقيق عنصر التوافق (الهارموني) النغمي دون أي نشاز، وذلك بما يتلاءم مع التعبير الموسيقى عن دراما وجو النص، أما من ناحية الغناء (البوليفوني) أي متعدد الأصوات بلحنين مختلفين في نفس الوقت، وذلك بقصدية شد انتباه المتلقي، نحو التقلبات الدرامية التي يعبر عنها هذا النوع من الغناء.

تأسيساً على ما سبق يرى الباحث أن (سيد درويش)، طرق منهجاً جديداً في التلحين المسرحي اعتمد فيه أساليب متطورة، كما اهتم بتأصيل النغمات المحلية، ووضع نصب عينيه مسألة هامة وهى أن تعبر الموسيقى عن الدراما المسرحية، بحيث تنطق بأفضل شعور يمكن أن يتولد عند المتلقي، وأوجد بذلك لأول مرة المدرسة التعبيرية الموسيقية في المسرح الغنائي، إذ أن الألحان والموسيقى المسرحية عند (سيد درويش)، وفي حضن العناصر المسرحية الأخرى الداعمة، إنما تشكل عنصراً هاماً في تنشيط الوعي الدلالي والإدراك الحسي، فهي لا تحيل الأشياء والعناصر إلى ذاتها، بل تفرقها عن ذاتها وتنزع عنها مرجعياتها المعنوية والدلالية، ناقلة كل ما يشاهد ويسمع إلى حيز الفعل الذهني المشارك والخلاق لا إلى الحيز الذهني المتلقي بسلبية وخمول.

وقد لعب (سيد درويش) دوراً كبيراً ومهماً في تطور وتعاظم المسرح الغنائي المصري، إذ أن ألحان المسرح الغنائي عند (سيد درويش) لا توضح لملء الفراغات أو للحشو الزائد، وليست أيضا عنصراً مكملاً أو ثانوياً، وإنما تتعدى وظيفتها كل تلك الحدود، أنها تعمل على خلق شخصيات، وأبعاد معنوية ونفسية، وحالات درامية مسرحية متكاملة العناصر، كما أنها تضفى أبعاداً جديدة مستقلّة ومتفاعلة مع البناء الدرامي العام للعرض المسرحي، تغنيه وتشارك في مساره، بل تصنعه في كثير من الأحيان، وعليه فإن الموسيقى والألحان مسرح (سيد درويش) الغنائي، ليست مجرد أداة تجميلية أو تأثيرية في عمل درامي.

اعتمد أيضا (سيد درويش) في مسرحه الغنائي على أسس جديدة منها، الدراما والرسالة التي يرسلها العرض المسرحي إلى المتلقي، والتعبير الموسيقى عن أحداث الدراما، مع الارتباط بالتراث الشعبي كأساس للهوية المسرحية الموسيقية، وأيضا صياغة الجمل اللحنية في أبسط صورة، وصياغة الألحان المسرحية في تراكيب حديثة متطورة وإيقاعات شابة مليئة بالحيوية، تبعاً لأحداث العرض المسرحي.

كما أن الغناء عند (سيد درويش) في مسرحه الغنائي لا يتم بنبرة تقريرية، إلا إذا استدعى الأمر ذلك، لكنه يستخدم نبرة ما، ولوناً صوتياً ما، وأداء كلامياً ما، يساهم ذلك كله في بناء الشخصية الدرامية، ويضفي عليها طابعاً صوتياً، هو في صلب الحس والتصميم الموسيقي لأبعاد الشخصية الدرامية، أي أنه لم يكن يصنع الألحان للتطريب المزاجي، وإنما يهدف إلى نفس غاية المؤلف المسرحي، ويريد أن تصل الفكرة إلى الناس في أوضح صورة ممكنة، إذ لم يكتفى (سيد درويش) بالتعبير الموسيقى عبر التلوين الصوتي والغناء الحوارى فقط في مسرحه الغنائي، بل يلبس كل فرد من أفراد مجموعة الغناء ما يناسب دوره الدرامي على المسرح، ولم يكتفى بهذا فقط بل يجعل حركات المجموعة تعبر عن ما يقوله الحوار الغنائي، مع التلوين الصوتي في الأداء.

لذلك يرى الباحث أن (سيد درويش) لم يسير على درب الشيخ (سلامه حجازي)، و(داود حسني)، و(كامل الخلعي)، وبمقدمه تغير كل شيء، حيث حلت التعبيرية في المسرح الغنائي محل التنغيم والطرب، وأصبح الموسيقى في عهده مدخل للتعبير عن الأحداث الدرامية، والجو العام لموضوع العمل المسرحي، إذ أصبحت الموسيقى أداة للتعبير أو بمعنى أكثر وضوحاً غناء مسرحي، تنطق وتصور معنى النص الدرامي وجو العرض المسرحي.

دراسة للباحث المصري: محمد جمال الدين

تعليقات